اذا كانت البعثة النبويّة الشريفة قد استهدفت تغيير أسُس الفساد العقدي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المجتمع الجاهلي، فانّ نهضة الحسين بن علي (ع) قد استهدفت إصلاح الأسس التي غيّر وبدّل بها (الصحابة) بعد رسول الله (ص) ولذلك قال الحسين (ع) في وصيته {وانّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكَر، وأسير بسيرة جدّي وأبى علي بن أبى طالب}.
ان مشكلة الكثير من المصلحين هي انّهم يَسعَوْن لإصلاح ما ظهر من المفاسد في السلطة والمجتمع، امّا الحسين (ع) فقد استهدف الأسس التي نلعنُ من أسّس لها في نص زيارة عاشوراء، اذ يقول المعصوم {فَلَعَنَ اللهُ اُمَّةً اَسَّسَتْ اَساسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ} فماذا ينفع اذا حاولت منع إرهابي من تفجير نفسه، وفي طابور الارهابيّين آلاف الدوابّ التي يغذيها الفكر الوهابي والاعلام الطائفي وفتاوى فقهاء التكفير مصطّفة بانتظار دورها لتفجّر نفسها؟ فالجادُّ في القضاء على الارهاب يعمد الى الأسس التي تأسّس عليها الارهاب فيبذل قصارى جهده لتجفيف منابعه، امّا دون ذلك فلهوٌ وعبثٌ لا طائل من ورائه. ولأنّ الحسين عليه السلام ما تعمّد اللهو والهزْل كلّ حياته، لذلك بذل دمه وحياته وكلّ ما يملك من أجل إصلاح أسس الظلم التي شيد بنو أمية بنيانهم عليها.
فما هي ملامح هذه الأسس؟.
اولا: التمييز العنصري والطبقي والطائفي، فبعد ان بنى رسول الله (ص) مجتمع المدينة على اساس العدل والمساواة، فلا تمييز طبقي او اثني، إنما {أكرمكم عند الله اتقاكم} عاد مجتمع المدينة القهقرى يحكمه التمييز في العطاء، والذي كان يعني وقتها التمييز في كل شيء، لان العطاء آنئذ كان رمز العدل والمساواة.
يقول الدكتور محمد عابد الجابري بهذا الصدد، في كتابه (العقل الاخلاقي العربي):
(لقد كان من نتائج الطريقة التي اعتمدها عمر بن الخطاب في توزيع الغنائم على اساس القرابة من النبي مع اعتبار السابقة في الاسلام انْ تكدّست الثروات في أيدي كبراء بني هاشم وبني أُميّة اذ كان جل قادة جيوش المسلمين من قريش، وفي مقدّمتهم بنو أُميّة، امّا اولئك الذين كانوا لا قبائل لهم من الصحابة الذين كانوا في الاصل عبيداً او موالي او من قبائل هامشيّة، كعمّار بن ياسر وامثاله من المستضعفين الذي امتُحِنوا زمن الدعوة، فقد كان نصيبهم من العطاء هزيلاً بالقياس الى اشراف قريش، بمن فيهم الطّلقاء الذين لم يلتحقوا بالاسلام الا بعد ان عفا عنهم النبي (ص) عند فتح مكة).
وتكرّس التمييز بمرور الزمن ليصل الى أوجه في زمن الخليفة الثالث.
يقول الجابري:
(وزاد في الطين بلة، كما يقولون، لين عثمان وايثاره ذوي قرباه من الامويّين، وعزله لكبار الصحابة من ولاية الامصار والاقاليم وتعيينه لرجال احداث من بني أُمية مكانهم، ولم تكن لكثير من هؤلاء سابقة في الاسلام).
ولذلك فانّ أوّل قرار ثوري اتخذه أمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام لحظة تولّيه السلطة في مجتمع المدينة هو السعي الحثيث لإلغاء التمييز بدءاً من العطاء، فقرر اعادة الأموال والضِّيَع التي وهبها من لا يملك لمن لا يستحق، قائلا عليه السلام، من كلام له فيما ردّه على المسلمين من
قطائع عثمان:
{وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ; فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!}.
ثانيا: التضليل، فبينما اهتمّ الاسلام بالوعي وعملية تنوير العقل وإثارة دفائن العقول وعملية التفكير في كل شيء، اذا بالسلطات التي خلفت رسول الله (ص) تمارس اسوأ انواع التضليل من خلال تلفيق الأحاديث على لسان رسول الله (ص) واعتماد نظريات عقديّة تخدّر المجتمع وتسكّن أوجاعه وتنوّمه مغناطيسياً لكي لا يتحرّك او يثور طالبا بحقه.
يقول الجابري بهذا الصدد:
(وهكذا عمدَ الامويّون الى توظيف الحديث النبوي لصالح قضيتهم فروى لهم انصارهم احاديث ظاهرة الوضع تنصّ على اعفائهم من العقاب يوم القيامة وترفعهم الى مقام الانبياء، من ذلك حديث روّجوه بهذه الصيغة: يا محمد اقرئ معاوية السلام واستوصِ به خيراً فانه أمين الله على كتابه ووصيّه، ونعم الامين، وفي حديث آخر ان النبي (ص) قال: الامناء ثلاثة، جبريل وانا ومعاوية، وروّجوا لحديث يقول فيه النبي: اللهم علّم معاوية الكتاب، ومكّن له في البلاد، وقه العذاب).
واليوم اذ نستنسخ نفس المشاكل لنحصد نفس النتائج، فلولا التمييز في المجتمع تارة على اساس الدين واخرى على اساس الأثنية وثالثة على اساس المذهب ورابعة على اساس المناطقية وهكذا بقائمة تبدأ ولا تنتهي، ولولا التضليل الاعلامي وعمليّات غسْل الأدمغة التي بات يمارسها الجميع من دون استثناء، لما تمزّق المجتمع وسيطرت على مقدّراته زمرة من اللصوص والفاشلين، ولما تمكّن منه الارهابيون برمشة عين أبداً.
ان الحاكم الظالم او الفاشل يعْمد الى هذين العنصرين، التمييز والتضليل، للسيطرة على المجتمع وبالتالي لتسييره كيف يشاء، لأنّ مجتمعاً تمزّقه الفتن والأهواء والأزمات يسهل على الحاكم تسييره، كما ان مجتمعاً أهبل لا يقرأ ولا يكتب ولا يعي الامور ولا يميّز ببن الناقة والجمل لهو مجتمع يُقاد بكلّ سهولة حتى اذا كان الحاكم نعجة او حماراً او ما دون ذلك، وبنظرة سريعة لحال مجتمعاتنا العربية على وجه التحديد فسنرى فيها مصاديق كثيرة بهذا الصدد، والا كيف يُعقل انّ (موزة) تقنع (بلعماً) ليضلّل المجتمع؟ اذا بالشّباب المغرّر بهم يُقادون كالخراف والدوابّ الى مسالخها من دون ان تسأل لماذا؟ والى اين؟ ولمصلحة من؟ والى متى؟.
https://telegram.me/buratha