هذا السّيلُ المليونيُّ الجارف في مسيرة الاربعين، هو أحدُ اعظمِ مصاديق قول عقيلة بني هاشم زينب الكبرى بنت علي عليهما السلام الذي تحدّت به الطاغية ابن الطلقاء يزيد بن معاوية لعنهُ الله ولعنَ أباهُ وجدّهُ وجدّتهُ هند آكلة الأكباد في مجلسه بالشام {فكِدْ كيْدكْ واسعَ سعيَك وناصِبْ جَهدَك فوالله لا تمحو ذِكرَنا ولا تميتُ وحيَنا ولا تُدركُ أمدَنا ولا ترْحضُ عنك عارَها وهلْ رأيُك إلا فَندْ وأيامُك إلا عَددْ وجمعُك إلا بَدَدْ}.
كما انّهُ مصداقٌ لقولها عليها السلام، وهي العالمة غير المعلّمة لابن اخيها الامام علي بن الحسين السجاد زين العابدين عليهم السلام {ولينصبنّ لهذا الطّف علمٌ لقبرِ أبيك سيّد الشهداء سلامُ الله عليه لا يُدرَسُ أثرُه على كرور اللّيالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمةُ الكفرِ وأشياعُ الضّلالة في محوه وتطميسِه، فلا يزدادُ إلاّ علوّاً وأمرُه إلاّ ظهوراً}.
فكيف تحقّق ذلك؟.
أولاً؛ لا شكّ ان في الامر غيبٌ، فلقد أراد الله تعالى لقضية الحسين السبط سيد الشهداء (ع) ان تخلُد بهذا الشّكل، ولولا هذه الإرادة لطُمست الذّكرى منذ زمنٍ بعيدٍ، فانّ ما بذله الطّغاة على مرّ التاريخ لمحو اثر الامام وذكراه لو انّهم بذلوا واحداً من مليون على ايِّ امرٍ آخر لانمحى اثرُه في الحال بكلّ تأكيد، فكم من حدثٍ وثورةٍ وتضحيةٍ ومصيبةٍ ومأساةٍ مرّت في تاريخ البشريّة، لم يبقَ منها شيء يُذكر، واذا بقي فللذّكرى العابِرة فقط، اما عاشوراء فهي لا تُنسى لتُذكر ولا يغفل عنها الانسان ليستفيق عليها عندما تمرّ عليه، انها حاضرةٌ في الوجدان وفي المشاعر وفي القلوب وفي الأرواح وفي كل شيء، ليس عند شيعته ومحبّيه فقط، او عند المسلمين فحسب، وإنما عند كلّ الناس بلا استثناء، ولذلك لم نجدْ قضيّة في تاريخ البشرية كتبَ عنها الأدباء من الرواة والشعراء وغيرهم، وكذلك الكُتّاب والباحثين والمؤلفين واصحاب الاقلام الحرّة والشريفة من كل الملل والنّحل كما كتبوا عن الحسين (ع) وعاشوراء وكربلاء، وبصور وتصويرٍ وخيالات ومشاهد لا تجدْها في أيّة قضيّة أُخرى.
انّ وراءها غيبٌ يحفظها من النسيان، اذن، واذا أراد الله شيئاً فلا رادَّ لإرادته، كما اخبرنا عز وجل في محكم كتابه الكريم {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقولُه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}.
ثانياً؛ ولقد هيّأَ الله تعالى اسباباً لإنجاز هذا الغيب، ولعلّ اوّل هذه الأسباب هو العقيلة زينب بنت علي عليهما السلام التي وقفت في مجلس الطاغية يزيد تتحدى كل جبروته المصطنع وانتصاراته الكارتونية وزهوِه الكاذب، لتدلي بخطبتها التاريخية المشهورة التي لم يُكذّب منها التاريخ حتى حرفاً واحداً، على الرّغم من انها مليئة بالتّحديات التي عدّها الحضور وقتها ضربٌ من الخيال الذي لا يمكن بل من المستحيل تحقيقه، اذا بالأيام والسنين والعقود والقرون تمرّ ليُثبت الواقع صحّة كلّ حرفٍ قالته العقيلة بلا زيادة ولا نقصان، فماذا يعني هذا؟ الا يعني انها كانت صادقة مع نفسها ومع الله وواثقة من نفسها ومن الله وعلى يقين بقضيتها المقدّسة فكان ان تكلّم الصدق كلّهُ على لسانها؟.
انّه صِدْقُ النّيّة الذي يحقق المعاجز ويفعل المستحيل، فما احوجنا اليه اليوم ونحن نمرّ بكل هذه التحدّيات العظيمة؟ سواء على المستوى الشخصي او على المستوى الاجتماعي او على مستوى الدولة والشعب؟ انها تحدّيات كبيرة لن ننجح في تجاوزها الا بالصّدق، صدق النية مع الله ومع النفس، والثقة بالله وبانفسِنا وبما نعتقد به من قيمٍ عليا.
لقد أشار امير المؤمنين (ع) الى سر النصر الإلهي الذي نزل على المسلمين الاولئل بقوله{وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلى مَضَضِ الاْلَمِ، وَجِدّاً عَلى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، ومَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الاِْسْلاَمُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً}.
لِنتساءل مع انفسِنا، وليسأل كلّ واحدٍ منّا نفسه عن مدى صدق نواياه؟ مدى صدقهِ مع الله؟ مدى صدقه مع نفسه؟ مدى صدقه مع الآخرين الذين يتعامل معهم؟ زوجه، زوجته، ابنه، ابنته، ابوه، أمه، اخوه، اخته، تلميذه، معلمه، مربّيه، مديره، وزيره، وكل من حوله يتعامل معهم ويتعاطى معهم الحياة والأمور.
اذا تساءلنا، فليقرّر كلّ واحدٍ منّا ان يَزيدَ في نسبة صدقه ولو قليلا عن المعتاد، اذ كلما زدنا صدقاً ويقيناً كلّما اقتربنا من الله تعالى وبالتالي كلما اقترب إلينا النصر الإلهي الذي وعد ربّنا عزّ وجلّ عباده المؤمنين.
https://telegram.me/buratha