تزرعُ فينا مسيرةُ الاربعين المليونية روحَ التّمرّد والرّفض، من جانب، والطاعة والقبول من جانب آخر.
وقبلَ ان أعرّجَ على التفاصيل أودّ ان أشير الى حقيقةٍ في غايةِ الأهمّية، وهي؛
انّ الانسانَ هو اوّل مراقب على نفسهِ وأول محاسِب لتصرّفاته، وهو الدّافع الاول والاهمّ اذا أراد ان يتخذ قرار التغيير بتوظيف العوامل والاسباب الخارجيّة، ومسيرةُ الاربعين اليوم هي احد أهمّ وأعظم هذه الأسباب الخارجية للتّغيير شريطة ان يقرّر الانسان توظيفها لتحقيق هذا الهدف، الإصلاح والتغيير، امّا اذا لم يقرر ذلك فلن ينفعه شيء لا المسيرة المليونية ولا كل الدنيا ولا التاريخ ولا التجارب ولا العبر ولا اي شيء اخر.
مشكلة الانسان بهذا الصدد مرت عليها آية في القرآن الكريم وقولٌ لأمير المؤمنين عليه السلام؛
المشكلة الاولى؛ هي الاعذار والحجج، فليس في هذا الكون من يمتلك القدرة العجيبة على خلق الحجج والأعذار مثل الانسان، والاتعس عندما يخلقها لنفسه لإقناعها بصحة قوله او فعله او موقفه، هربا من المسؤولية او تبريراً لجريمة ارتكبها ربما.
قال تعالى {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.
هو يعرفُ جيداً ماذا فعل، حتى اذا جَهلَ فعله العالم، او بذل كلّ طاقته وعنترياته وبهلوانياته لإخفائه على العالم، ولذلك فانّ اعظم شاهد على الانسان يوم القيامة هو الانسان نفسه، قال تعالى {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ}.
المشكلة الثانية؛ وهي، ربما، اخطر من الثّانية، عندما يسخّر الانسان الدين، وهو أقدس شيء، لتبرير تصرفاته الخطأ، وهي أقذر شيء، سواء كانت قولاً او عملاً، حتى انّ البعض حوّل الدين الى (طين) يشكّل منه تصرّفاته كيف يشاء وانّى يشاء، كذلك هرباً من المسؤولية او تبريراً لخطأ او حتى جريمة يرتكبها.
انهّم يلوون عنق الحقائق القرآنيّة لتبرير افعالهم وربما جرائمهم، وياخذون من الدين ما يهوون ويغضّون النظر عمّا لا يُحبون، ويتشبّثون بآية فيحفظونها عن ظهر قلب اذا خدمت هدفاً مريضاً من اهدافهم، وينسونها او يتناسونها اذا اضّرت بمصالحم.
لقد قال امير المؤمنين عليه السلام لعمّار بن ياسر رحمهُ الله مرّة، وقد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاماً {دَعْهُ يَا عَمَّارُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ مَا قَارَبَتْهُ الدُّنْيَا، وَعَلَى عَمد لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ، لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ}.
والان؛ نحن اليوم امام هذه المسيرة المليونية التي تحمل في ثناياها كل معاني الحب والولاء والاخلاص والإيثار والوحدة والاخوة، يمكن ان تكون سبباً للإصلاح والتغيير، كما يمكن ان تكون في نفس الوقت ظاهرة وقتيّة وآنية عابرة لا تغيّر من الواقع شيئاً ولا تؤثّر في سلوكنا أبداً، فمن الذي يقرّر احد هذين الامرين؟ من الذي سيقرر ما اذا ستكون سبباً للإصلاح والتغيير، او مجرد مظهراً مؤقتاً كأيّ مظهرٍ آخر يمرّ في حياتنا او نشاهده في الافلام او نقرأ عنه في الكتب؟.
انّ الذي بيده القرار هو؛ انا، انت، انتي، هو، هي، وكلّ ضميرٍ مفرد، فإذا قررت هذه الضمائر المفردة ان تتّخذ من المسيرة المليونية سبباً للإصلاح والتغيير، فسيتحقّق ذلك على مستوى المجتمع، اما اذا قررت هذه الضمائر المرور على الظاهرة مرور الكرام فلن يتغير شيءٌ أبداً.
لا تنظر الى من معك او من حولك، لا ترمي الكرة في ملعب غيرك، لا تنتظر من الآخرين ان يتغيّروا لتتغيّر، لا تفكّر بتغيير الآخرين قبل ان تتغيّر انت، فليبدأ كلّ واحدٍ من نفسه، ولا عليه بالآخرين، لا عليه بالمجتمع، عليه بنفسه فليغيّرها أولاً، وصدق الله تعالى الذي قال في محكم كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
والان؛ على ماذا نتمرد، وماذا نطيع؟.
اولّ ما يجب ان نتمرّد عليه هو الأنانية من خلال تراجع ضمير المفرد (انا) وتقديم ضمير الجمع (نحن) فالاول يخلق الحالة الانعزالية اما الثاني فيخلق حالة التعايش، الاول سبب كل المشاكل والفشل والتراجع والهزائم، والثاني حجر الزاوية لكل نجاح، الاول يخلق الأصنام التي تُعبد من دون الله والثاني يحطّم كل الأصنام، الاول يُنتج الاستبداد والديكتاتورية والثاني يُنتج ثقافة التّشاور والتعاون، الاول يشكل العمود الفقري لمبدأ التقاسم، تقاسم السلطة والنجاح والمسؤولية او ما نسمية بالتشاركية، والثاني يُنتج التفرّد، الاول يهيء النفس للاستئثار والثاني يهيء الارضيّة للإيثار، واخيراً فالأول سببٌ لكلّ نزاع وخلاف وتمزّق وتفتّت والثاني سببٌ لكل اتفاق واجتماع وتلاحم.
في مسيرة الاربعين المليونية لا معنى لضمير المفرد (انا) الا في صلب ومن رحم ضمير الجمع (نحن) فمِن (نحن) يولد (انا) لان الجمع يرعى المفرد، والمفرد لا يُلغيه الجمع أبداً.
https://telegram.me/buratha