فهي حدّدت الأسس التّالية لبناء الدولة المدنية العصريّة والعادلة؛
أولاً؛ احترام الخصوصية بكلّ اشكالها، فليس من بين أهدافها ان يذوب الانسان - الفرد والإنسان - الجماعة في المجتمع على حساب خصوصيّاته ومميّزاته، فقوة المجتمع بتنوّعه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فلولا التنوّع لما تكامل المجتمع.
ثانياً؛ ان يكون التعامل مع بعض في المجتمع الواحد على قاعدة (المعروف والقسط) فليس من بين أهدافها استخدام العنف بأيّ شكلٍ من الأشكال لفرض دين او معتقد او عقيدة او اخلاق او رأي او في العملية التربويّة او اي شيء اخر {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
ان القناعة التي تنتج عن حرية الاختيار تكون ثابتة، اما القناعات المفروضة قهراً وبالعنف والقوة فتكون مهزوزة وهي التي تساعد في نمو ظاهرة النفاق في المجتمعات.
ثالثاً؛ وحدة المجتمع فوق كلّ شيء، فما يسبب الفُرقة والتمزّق والتشتّت والتقاتل وغير ذلك مرفوض لا ينبغي ان يتوّرط به احد كائنا من كان {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.
رابعاً؛ التكافل الاجتماعي ركن أساسي من أركان بناء المجتمع السليم، ومن بين اهم معاني التكافل الاجتماعي هو ان تكون يد الجماعة فوق يد الفرد اذا أراد ان يُفسد في المجتمع، يسرق مثلا او يعتدي على حقوق الآخرين او يتجاوز على خصوصياتهم او ما الى ذلك، بغضّ النّظر عن قربه او بعده لهذه الجماعة او تلك، لان غضّ البصر عن الفاسد الواحد او التجاوز عنه بسبب عصبية دينية او مذهبية او قبلية او إثنية او حزبية او ما أشبه، بمثابة فسح المجال امام الفساد ليستشري في كل المجتمع {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.
خامساً؛ القانون فوق الجميع، فلا يحقّ لاحدٍ ان يميّز نفسه عن الآخرين، فلا شيء يمنح الفرد حصانة ضد القانون، موقعه او انتماءه او اي شيء اخر، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
سادساً؛ السّلم الأهلي هو القاعدة الثابتة والعريضة التي ينبني عليها المجتمع، بغضّ النظر عن الانتماء واختلافاته وتنوّعه وتعدّده {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
سابعاً؛ كما ان مفهوم المواطنة الصالحة يتأسس على فكرة الانتماء للمجتمع وليس لأي انتماء آخر، من خلال احترام التعددية والتنوع والاختلاف {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
ثامنا؛ على الظّالم وزرَه فلا يؤخذ بريء بجريرة ظالم، بحجة النسب او الانتماء او الهوية او ما أشبه {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
تاسعاً؛ الأمن حقّ للجميع بلا تمييز، وهو واجب الدولة على المجتمع، وهو رأس الواجبات لان كل شيء متوقّف عليه، فاذا حققت الدولة الأمن حقق المجتمع ما يصبو اليه، والعكس هو الصحيح، فاذا فشلت الدولة في تحقيق الأمن فشل المجتمع في تحقيق أهدافه ورغباته وتطلعاته وغاياته {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
عاشراً؛ تأسيساً على ذلك، فان الصلح هو الأساس في العلاقات سواء في المجتمع الواحد او فيما بين المجتمعات المختلفة، والحرب والقتال استثناء {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}.
وبمناسبة ذكرى الهجرة النبوية الشريفة التي شكّلت منعطفاً تاريخياً عظيماً في تاريخ البشرية، ادعو الى احياء (وثيقة المدينة) نصاً وروحاً وفهماً وبحثاً ومعاني وكل شيء، فهي النموذج الذي يمكن ان يُحتذى اليوم لبناء دولة مدنيّة وعصريّة.
لماذا غابت هذه الوثيقة في ثقافتنا ودراساتنا ومناهجنا التعليمية؟ لماذا غابت عن واقعنا؟ ومن الذي غيّبها؟ وكيف؟.
يجب ان نطرح هذه التساؤلات بقوة، لنعمل على احيائها مرة اخرى، وبقوة كذلك.
https://telegram.me/buratha