كلام كثير يدور اليوم حول الفساد، فهو بالفعل آفة الدولة والمجتمع على حد سواء. والفساد ان كان السرقة والتلاعب بالمال العام فهو حقيقة موجودة في كل الانظمة والمجتمعات.. لكنه عندما يتحول الى نظام فانه يصبح ظاهرة اجتماعية بنيانية تحتاج الى اكثر من الاجراءات المتخذة اليوم السائرة نحو شخصنة الفساد بدل التعرف على جذوره واسسه ومعالجاته الجدية.
تنصح المؤسسات الدولية بالكثير من الاجراءات والنصائح.. والنقاط الست ادناه تشكل منظومة متكاملة ومتلازمة..:
1- مساءلة المسؤولين وتغييرهم المستمر..
2- تفعيل دور الرقابة والتدقيق والشفافية..
3- اتباع البرامج الادارية المعاصرة..
4- حسن اختيار الموظفين..
5- السيطرة على الصرف وحسن استخدام الموارد..
6- التقليل من التدخل الاقتصادي..
واذا وقفنا عند النقاط اعلاه، دون ذكر، فسنرى انه تراكمت خلال العقود الماضية بنى واجراءات وقواعد عمل هي بالضد تماماً من التوصيات اعلاه من الناحية الواقعية وليس النظرية فقط..
ففي النقطة السادسة، وهي الاهم، نرى ازدياد تدخل الدولة. فهي تحتكر في كل يوم المزيد المصالح، وتضع الحواجز اكثر فاكثر على المزيد من المجالات في القطاع الاهلي والخاص. فقوة العادة والقوانين والتعليمات البالية والتربية المتوارثة ما زالت اقوى من اية نزعة للاصلاح وتشخيص مواطن العطل والفساد. فانخفضت مساهمة القطاع الاهلي في الناتج الوطني الاجمالي الى اقل من 30%.. وانهارت مساهمته في تكوين رأس المال الثابت الى رقم احادي، وبات لا يمثل سوى نصف القوى العاملة تقريباً.. بعدما كان يمثل 76% من الناتج الوطني الاجمالي و45.1% من تكوين رأس المال الثابت، و82.2% من العمالة الوطنية عام 1965.
وهكذا النقطة الخامسة حيث تكدست الارقام وتراكمت الاوراق لدرجة ان الموازنات باتت عاجزة عن تقديم حساباتها الختامية.. وان هذه الحقيقة بمفردها، دون ذكر ما عداها من نقاط في غياب النظم الادارية المعاصرة والاستمرار في ضعف العادة المصرفية واستمرار الاعتماد على النظم اليدوية والورقية (وهو ما تشير اليه النقطة الثالثة) ستبين العجز في تحقيق النقاط واحد واثنين واربعة، اي مساءلة المسؤولين وتغييرهم المستمر، وامكانية تفعيل دور الرقابة والشفافية والتدقيق، وحسن اختيار الموظفين.
فباتت الدولة مجرد مؤسسة للرعاية الاجتماعية وليس دولة للخدمة عامة.. فترهلت اضعاف ما تتطلبه واجباتها الاساسية.. فصار الحصول على الشهادة –اية شهادة- والضغوطات والحزبية والواسطات والمحسوبيات والمظاهرات والتزوير وكسب الاصوات الانتخابية الطرق الاساسية للتعيين وزيادة التعيين. فارتفع عدد الموظفين والمتقاعدين الذين تعيلهم الدولة (دون ذكر العقود والشركات الحكومية والحماية الاجتماعية وسياسات الدعم والكثير غيرهم)، حوالي 4 اضعاف ما كان عليه الحال قبل عشر سنوات. فالموظفون والمتقاعدون كانوا اقل من 2 مليون مواطن ومواطنة في عام 2014، بينما يقترب عددهم اليوم من 7.5 مليون مواطن. فطموحات المواطنين باتت التعيين في الدولة لان مجالات الوظيفة والعمل قد اغلقت فيما عداها. وهكذا حولتنا الدولة الريعية لنظام توزيع وليس لنظام انتاج.
ان كل ما تم ذكره اعلاه يتعزز باعمال التخريب والارهاب والخسائر المستمرة في الاصول لسبب او لاخر.. فتطورت نفقات العسكرة والامن وتكاليف الصراعات السابقة والحالية، وكثرة النازحين، والمحاصصة والصراع على المواقع، مما عزز من حالة انتقال الفساد من ظاهرة فردية الى ظاهرة اجتماعية.. فتراكمت القوانين والتعليمات التي ارتكزت في معظمها على تعزيز انظمة التشديد والعقوبات الشخصية الجائرة او الصحيحة.. مع عجز متزايد لمعالجة اسباب استشراء الفساد، وصعوبات عملية، وعدم وجود ارادات حقيقية، لتطبيق منظومة النقاط الستة اعلاه.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha