شهاب آل جنيح
وسط شعور بالذهول انتابني بالأمس، وأنا أنظر لطفلين صغيرين، بدا الحزن مخيماً على وجهيهما، وبراءة الطفولة في عيناهما، وبجانبهما رجلٌ عيناه مغرورقتان بالدموع، وملامح وجهه سادها حزن عميق، وهو يحادث الصغيرين بصمت! و ينظر إليهما بقلب كسير، فهو رفيق دربٌ لأبوهما الشهيد.
لهذين الطفلين أبٌ كان قائداً في جبهات القتال، حين سمع نداء الوطن؛ لم يبخل في التضحية بما يملك في سبيله، فراح يقاتل في المعركة تلو الأخرى، ليس له هم؛ سوى الدفاع عن أرضه، أستشهد العديد من رفاقه، وهو يقف عند رأس كل واحد منهم، ولسان حاله مستوحى من ملحمة الخلود إذ يقول: لو لم أعلم أني في الأثر؛ لأحببت أن توصيني بكل ما همك.
رحلته الأخيرة كانت مذهلة، فأراد أن يلتحق برفاقه، لكنه لا يملك أجرة السيارة التي تقله إليهم! إنه أمر مثير للدهشة حقاً! فهو يقترض أجرة الموت! إذ يطلب من أخيه، أن يقرضه خمسون ألف دينار، وبسرعة حتى لا يتأخر في الذهاب للجبهة، وكذلك يطلب منه، ختان أبنه في حال تأخره عنهم، وأخيراً يقول: إذا لم أرجع فأهتم أنتَ بأولادي!
أيّ تضحية هذه؟! أنسيت ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها...))؟ ما ذنبك لتدافع عن وطنٌ باعه قادته بفسادهم، وتقاسموا ثمرات شعبه لأبنائهم؟ أمنَ العدل أن تقتل أنتَ؛ بجريرةٍ اقترفوها بفشلهم وغبائهم؟ أتترك وَلَدَيكَ وتذهب لتموت؟ من لهم من بعدك؟ إذا استيقظ أحدهما صباحاً وصاحَ باسمك، فأنى لك بالجواب؟ ما ذنبه ليعيش يتيماً؟
إذا كنت لا تملك أجرة الرحلة؛ فلا تفدي وطنٌ خيره لغيرك، وشره إليك؟ وطنٌ يقتل أبناء الفقراء؛ ليحيا أبناء الأثرياء، أرجع لبيتك وعيالك، فهم أولى بك من أرضٌ، لا ترضى لك أن تبني عليها سوى القبور! كان هذا حديثه مع نفسه.
أخذ ينظر في أرجاء بيته المتواضع، وهو يلف ويدور، فيقول: ما ذنب هذا الوطن وما جريرته؟ لمَ لا ندافع عنه؟ أيوجد أطهر من هذه الأرض؛ التي ضمت في ترابها آلاف الشهداء؟ ثم إذا لم نضحي من أجله؛ فمن يضحي إذاً؟ أما أطفالي فسأذهب أنا ليعيشوا بسلام، هذه الأرض لابد لها، من دماء تطهرها.
أخيراً قَرَرَ الذهاب لمعركته الأخيرة، فهو يرجو إحدى الحُسنَيين النصر أو الشهادة، بدأت المعركة ضد عصابات استكلبت على وطنٌ أنهكته الصراعات، استمر بقتاله حتى سقطً على الأرض، وراح ينظر ببصيرته لأهله وأطفاله، فهو غير قادر للعودة لختان أبنه الصغير، فرسم أحلام صغاره على الأرض بدمه؛ عسى أن تحققها لهم، ليعيشوا كباقي أطفال المعمورة.
عاد الشهيد محمولاً لبيته، يغطيه علم وطنه، الذي طالما رفعته يداه وسط لهيب الحرب، عاد شهيدا ليرسم صورة تضحيةٍ؛ حطمت كل معاني الكلمات، لشاب ترك الدنيا وفدى روحه لوطنه؛ بعد أن خانه مؤتمنوه، فصارت حكاية الشهيد هذه؛ مناراً للمجاهدين، ووصمة عار في جبين الفاسدين.
https://telegram.me/buratha