المقالات

جدلية التغيير* انطولوجية الثورة الحسينية

1487 14:54:00 2008-01-12

( بقلم : عباس راضي العامري )

تقديم:

- لماذا قام الإمام الحسين ؟ وما هذا التحول في موقفه عليه السلام وهو الذي عاصر أخاه الإمام الحسن ووافقه - مع بقية من وافق من أصحابه- على صلحه مع معاوية؟- هل قَبِلَ الحسينُ الصلحَ تعبُّداً برأي إمام زمانه؟- ولماذا لم يقم مباشرة بعد استشهاد الحسن عليه السلام؟ فإذا كان الإمام مرتبطا ً بالغيب فما الذي يدعوه إلى تغيير موقفه بعد أكثر من 8 سنوات؟- هل أن قضية الحسين تتلخص في أنه إنسان أراد الخير لشعبه فخذله الشعب؟- هل يستحق الشعب الكوفي والعراق بشكل عام هذه اللعنة التي تتوارثها الأجيال؟- أصحيح أن النتيجة التي انتهت إليها ثورة الحسين(ع) كانت غير منسجمة مع أركان الصراع الثلاثة ( الإمام والأُمة والعدو)؟- أين كان المختار ومن معه في واقعة الطف- وهم من أعلام المجتمع الكوفي- ؟- ما هي قصة التغيير الديموغرافي الذي قام به الأمويون في الكوفة ؟- لماذا انتهت حركة الإمام الحسين(ع) إلى هذه المأساة مع أنّ الواقع السياسي والاجتماعي الذي كان يعيشه المسلمون في ذلك العصر كان مهيئاً لأن يكون إلى حدّ كبير في نصرة الحسين(ع)؟

شهدت السنة التاسعة والخمسون للهجرة النبوية بعثة جديدة لفكر النبي محمد ص الذي كُـتب له الاندثار بعد حركة تسميم دقيقة لفكر الأغلبية من المسلمين وصناعة جدار من الأوهام بين الإسلام الصحيح وطلاب الحقيقة ممن يرون فيمن خَلَفَ رسولَ اللهِ ممثلاً له (ص) لابتعادهم - طلاب الحقيقة أولاء - عن كواليس صناعة القرار والتي سنسميها بـ(الأنَسية ) نسبة لأنس بن مالك ونتعرف على سبب التسمية قريبا ً في طيات البحث ..

لقد رسم الرسول ص بدقة وصعوبة متناهيتين خطا ً للأُمة ليضمن لهم سلامة الوصول إلى الله، ولكن اغتيالا ً رهيبا ًحدث لفكر الرسول ص ولم يُغسَّل النبي بعد .. وفي وقت انشغال الإمام علي عليه السلام في تغسيل نبي الأُمة بادر جماعة إلى عقد مؤتمرهم التأسيسي الأول لحركة كانت الأشد خطورة في عهد ما بعد الرسول لتتجه بالأُمة - فيما بعد- إلى نقطة بعيدة الالتقاء بالخط الصحيح وسوف يتضح لمن يراقب ذلك الشكل أنَّ خطين من السلوك كانا يسيران بشكل متواز ٍ هما خطا الأُمة التي التزمت بخط الرسول والتزمت بوصيته في إتباع مرشحه ومرشح السماء ،وخط الخلافة ،إلى أن وصلا إلى نقطة اغتيال عثمان بن عفان وتَشَكُل الخط العثماني المطالب بدمه والذين تكونت لديهم صورة واضحة عن أسباب الاغتيال وعن الأشخاص الذين قاموا بالاغتيال وإنْ تقمّصَ أكثَرُهم قميصَ دم عثمان لتحقيق مآربَ خاصة.

باشر أبو سفيان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوضع خطة راديكالية متعسفة لإلغاء المشروع الذي جاء به الرسول وتهميشه وإقصائه من الساحة - على أقل تقدير – عبر محاربة الرؤى الإنسانية التي جاء بها الرسول كالحرية والأخوة والعدالة وكرامة الإنسان وطبقها معاوية من خلال الخطة الخماسية الآتية التي أسرها الى المغيرة بن شعبة وتسربت فيما بعد:

1- التصفية الجسدية لمعارضيه بهدوء وبدون ضجيج عن طريق السم كما فعل مع الإمام الحسن والأشتر النخعي واما عامة الناس فكان يتبع معهم اقسى واعنف الطرق لارهابهم وصدهم عن خط علي وهاهو يوصي احد قادته العسكريين : “.. فاقتل كل من لقيته، ممن ليس هو على مثل رأيك، واضرب كل ما مررت به من القرى، واحرب الأموال، فإن حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب” , “ من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدموا داره”.2- إغراء الناس بالمال والمناصب.3- اثارة الفتنة الطائفية والقومية والمذهبية من خلال تشجيع المدارس الاعتقادية المختلفة وحظر المدرسة التي تتبنى فكر علي ,”أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته”,”ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة”4- الحصار الاقتصادي “انظروا من قامت عليه البينة إنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه”.5- تحويل شكل الحكم إلى وراثي وتنصيب يزيد حاكما ً .

والمطلع على أول خطاب سياسي للحسين عليه السلام يجده لتحديد مواصفات الحاكم والحكم ليقول للناس أن الخطة التي إتبعها معاوية ويتبعها يزيد الان خاطئة ومقصودة لحرف الناس عن الحق وان الحاكم الاسلامي لابد ان يتصف بمواصفات غير التي يتصف بها يزيد: “أيُّها الناس! إن رسول الله قال : مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله ...”.

مجتمع ما بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

إذا أردنا ان نبدأ بدراسة أسباب ونتائج الطف فلابد لنا ان نبدأ بدراسة مجتمع (ما بعد الرسول) - من خلال النصوص التأريخية – لان للامم امتداداتها التاريخية والوراثية ومن الممكن ان تتوارث الاقوام عقلية ما محافظة على نفس التفكير والتعاطي ، وسوف يتبين أن ستة أقسام من الناس كانت تتحرك على الأرض بعد وفاة النبي وكان لبعض ٍ منها أجندة معقدة تتبعها للوصول إلى أهداف مرسومة بدقة، بينما لم يكن لبعضها حظٌ من الفهم السياسي أو الدراية بما يجري من حولهم ..

المجموعة الأولى هم (النخبة) وهم من كانوا يتصفون بالرؤية الواضحة لمعالم الأوضاع التي تعيشها الأُمة الإسلامية بدون ضبابية أو اهتزاز في فهمها ومعرفتها كما كانوا يتمتعون بالتشخيص الواضح للموقف مستمدين موقفهم مما يقوم به الإمام علي (عليه السلام). بالإضافة إلى ذلك فقد كان لدى هذه الجماعة إرادة قوية ، بحيث تجسد فهمها ورؤيتها للموقف، إلى عمل خارجي. وإذا عدنا إلى واقعة الطف فسوف نجد أن المجتمع الكوفي لم تكن لديه هذه الإرادة فقد كانوا يعرفون من هو الحسين ومن هو يزيد ، وكان عندهم موقفٌ واضحٌ ; لأنهم كتبوا للحسين أن يأتي ليستلم الأُمور ، ولكنهم كانوا يفتقدون للإرادة التي يتمكنون بها أن يحولوا الموقف النظري إلى عمل خارجي . كان عدد النخبة بعد النبي محدوداً جداً ،ومحصوراً بين الثلاثين شخصاً و الثلاثة اشخاص حسب تعبير الرواية: ”ارتد الناس بعد النبي إلا ثلاثة نفر” . وهنا لم يكن الارتداد عن التوحيد والنبوة بل وصفت الرواية عدم اتخاذ الموقف الصحيح بالارتداد!.

أما المجموعة الثانية فهم (المنافقون): وهم مجموعة قبلوا بالحكم الإسلامي والشهادة لرسول الله والحالة العامة التي تحكم المجتمع ، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون بذلك في الواقع: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) والمثال الأكثر جلاء ً لهذه الحالة هو “أبو سفيان” .وقد كانوا يمثلون طبقة لها تأثير كبير جداً على الناس فهم من طبقة الأشراف واستغلوا مواقعهم في المجتمع للتخطيط والمناورة لانهم شعروا أن الرسالة الإسلامية تهدد مواقعهم .ومن أجل امتصاص هذه الحالة ، حاول النبي (صلى الله عليه وآله) أن يستميلهم ويدفع لهم الأموال ويعطيهم بعض المواقع ، ويحولهم إلى جانب الإسلام .

اما المجموعة التي نعتبرها الأقرب إلى النخبة فهم عامة المسلمين، فمنهم من اشترك في القتال ، ومنهم من جُرح ، ومنهم من أعطى أموالاً ، ومنهم من شارك بوسائل أُخرى ، وتحمل بعضهم الهجرة إلى الحبشة . وقد واجهوا قضية جديدة ترتبط بالموقف ، لأن القتال كان سابقاً ضد المشركين ، وأهل الكتاب والأعداء العلنيين ، وهذه الأُمور حددها لهم القرآن الكريم ، أما الآن فيشعرون أن القضية جديدة ، وهي : إن الصراع صار في داخل الجماعة المسلمة . وهم الذين ذهبت الزهراء إليهم ، وتحدثت إليهم في بيوتهم وليس أولئك الذين هجموا على بيتها وأرادوا إحراقه ، وهؤلاء أيضاً لم ينهضوا مع الزهراء لأنهم يرون أن الأوضاع استقرت وتم الأمر ، وإذا أرادوا أن يتحركوا فسوف يحدث صراع وانشقاقات جديدة .

ثم إنّ لدينا مجموعة أخرى مهمة - من حيث التقسيم السوسيولوجي وإلا فلم يكن لديهم وعي سياسي ولا يمثلون قوة عسكرية مهمة- وهم الأعراب: وهم المد الذي يتحرك باتجاه الإسلام بدون معرفة دقيقة سوى الشعارات والعواطف المتأججة  وهناك قسم خامس يكاد يمثل ركنا ً أساساً في مجتمع (ما بعد الرسول) هم الانتهازيون وأصحاب المصالح:وهم الذين عبر عنهم الإمام الحسين (عليه السلام) : “الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معايشهم ، فإذا مُحِّصُوا بالبلاء قلَّ الدَّيَّانون” .

وهؤلاء يقدمون المصلحة على الدين ،رغم إيمانهم به، وليسوا كالمنافقين الذين لا يؤمنون بالدين أصلاً .وأصحاب المصالح أُناس ذوو عقل وفهم ومعرفة اجتماعية وإدارة للأُمور ، ويمثلون طبقة في المجتمع ، وتراهم يتحركون بإمكانياتهم في كل وضع جديد ليسيطروا على المواقف ويكون لهم دور ريادي، باعتبار أنهم يملكون عقلاً وفهماً ومعرفة وإمكانات مادية .

أما أصحاب الرؤى الخاصة:وهي الجماعة التي كان لديها رؤية تجاه قضية الخلافة بعد رسول الله وتعاكس موقفه (صلى الله عليه وآله) ،وهم المجموعة الذين كان لهم الدور الأساس في قلب الموازين الصحيحة وحرف الناس عن جادة الحق التي رسمها لهم الرسول (صلى الله عليه وآله). وهؤلاء امتداد لمن احتج على الرسول في صلح الحديبية ، و في تقسيم غنائم حنين عندما قسمها على مسلمي مكة ،حين أشار القرآن الكريم إليها : (ومنهم من يَلمِزُك في الصدقات فإن أُعطُوا منها رضوا وإن لم يعطَوا منها إذا هم يسخطون) وهو ما يعبر عنه بـ “الاجتهاد في مقابل النص”.

نقطة الحرج الأولىلقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكتب كتاباً ، فقال : “هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده “ لكن بعض الحاضرين كانت عنده رؤية في مقابل ذلك . وهذا الأمر ينصُّ عليه كل المؤرخين ، وحتى الصحاح المعتبرة .وهذا ما عبرت عنه بالحالة الأَنَسّية والتي بدأت حكايتها في قصة الطائر المشوي حين دعا الرسولُ الله َ أن يشاركه في الطائر أحبُ خلقِهِ إليه فجاء علي عليه السلام وطرق الباب وكان مع الرسول أنس بن مالك فقام وردَّ الإمام بحجة أن الرسول مشغول وتكرر الأمر ثانية وثالثة عندها علا صوت الأمير ففهم الرسول ونادى بأنس ودخل علي واكلا معا عليهما صلوات الله وسلامه فهنا - حين أراد الرسول أن يكتبَ كتاباً - تدخل (الأنسيّون) وقالوا قولتهم البذيئة ( إن الرجل ليهجر)!!

إذاً كان هؤلاء يخططون لعزل الناس عن الرسول ويحاولون إيهامهم لئلا يطلعوا على حقيقة الدين وما يريد الرسول ص لأنه يتقاطع وما يخططون له، فهم يرون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ بتوجيه الناس نحو علي (عليه السلام)وبالتحديد قُبيل معركة تبوك حين خلَّف عليا ً في المدينة بعد أن كان يُبقي ابن أُم مكتوم لأنه رجل ضرير وعاجز عن القتال ، وفي هذه القضية المهمة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : “أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي” .

فأصبحت القضية واضحة ، لذا حاولوا قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبوك ، كما ذكر التأريخ .وقد ذُكرت شواهد كثيرة جداً وواضحة ، ولا يوجد فيها ريب من الناحية التأريخية ، فقد كانت هناك جماعة تخطط لتكون الخلافة من بعد رسول الله غير التي كان يريدها (صلى الله عليه وآله) ، وأرادها القرآن الكريم . معبرين عن ذلك -نظريا ً- بقولهم : “لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد”  لقد كان (صلى الله عليه وآله) يعرف هذا المخطط ، ما جعله يتوقف أول الأمر في اتخاذ القرار الحاسم في الغدير ، ويعلن البيعة ويجعلها قضية عملية خارجية ، ولكنه بعد ذلك، استجاب للقرار الإلهي وأنجز البيعة .

إذاً النتائج كانت طبيعية جداً ، لأن المنافقين إذا أرادوا أن يصطفّوا في هذه العملية فلا يصطفون مع علي (عليه السلام) ، وبالتالي مع خطه الذي يمثله الحسن عليه السلام هنا ؛ ذلك لأنه يمثل امتداداً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهم معروفون بموقفهم من رسول الله.. وإذا أردنا أن نأتي إلى الانتهازيين ، فإنهم إذا أرادوا أن يصطفُّوا سياسياً في هذه العملية ، فهم يعرفون جديته عليه السلام في التعامل مع المصالح العامة للإسلام وسوف يكون انتقائياً في التعامل معهم حسب ما تقتضيه المصلحة العامة .. لذا فإن الاصطفاف الطبيعي لهؤلاء سوف يكون مع الجانب الآخر .

وأما الأعراب فسوف يصطفون ـ بطبيعة الحال ـ مع ذلك الجانب أيضاً ، لأنهم يتأثرون بالقوة ، وفي الجانب الآخر توجد قوة وقدرة ، فمن يتكلم يُضرب رأسه ، وأول معالم القوة أبدوها في السقيفة ، فسعد بن عبادة شيخ الخزرج ، وهو شخصية كبيرة جداً ولديه عشيرة ، سحقوه في السقيفة حتى تمكن أصحابه أن يخلصوه بصعوبة.لذا فإن الهجوم على بيت الزهراء كان يعبر عن هذه القوة ، وأن كل من يتكلم فسوف يقفون بوجهه . وهؤلاء القوم كانوا قد أتوا بجماعة ورتبوا أوضاعهم ، وخططوا من أجل أن يعبروا عن هذه القوة والقدرة . وفي عملية قطع الرؤوس في الطف فان الشهيد الوحيد الذي لم يقطع رأسه هو الحر الرياحي لوجود عشيرته ورهطه الذي بادروا باخذ الجسد .

إنَّ حادثة ارتحال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تمثل منعطفاً تاريخياً عظيماً في تاريخ المسلمين ، وذلك لأن انحرافا ً بسيطا ً بدأ في الأُمة وقت ارتحال الرسول لم يكن يدرك مداه أولئك المسلمون الأوائل ، كانوا يرونه تغييراً شكلياً في قضية أساسية وجوهرية في حياتهم . وإذا بهذا الإنحراف ينمو ويكبر ويتمادى ، ويمر عقد من الزمن أو ما يزيد قليلا ، وإذا بفلذة كبد الرسول يذبح هو وأهل بيته وأصحابه ، وتسبى عيالات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باسمه وباسم الإسلام . فلماذا استمر الإنحراف ؟! ولماذا لم يتمكن علي (عليه السلام) من أن يقود المسلمين إلى طريق الإسلام ويصحح المسيرة ؟!! هذه المسألة لابد لنا من أن نتأمل فيها ، ونفتش عن السبب في المشاكل التي حصلت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

الجماهير ودورها في التغيير

هناك أمر لا ينبغي أن نغفل عنه وهو دور الجماهير أنفسهم في الثورة والتغيير وتحقيق الأهداف ، مع الدور الدور المركزي والاساس للقيادة في هذه المسألة . فعلي (عليه السلام) لم يكن مقصراً في مسؤوليته ، ولم يأل وسعاً في أيٍ من أُمور المسلمين حتى وصل به الحال أن يبذل نفسه ولكن الأمة (...) لم تستجب ولم تتفاعل بالمستوى الذي يضمن لها كرامتها- لا أقل -.

ابتلاؤه عليه السلام بعدم طاعة أصحابه له

لنوضح حال الأمة - آنذاك - في سوق قضية الحكمين مثالاً ونموذجاً لعدم طاعتهم:كان علي (عليه السلام) في صفين يصر على مواصلة القتال ، ويعرف أن مواصلته هي الحل الوحيد لحل العقدة التي يمثلها معاويةأمام المسلمين، ولو واصل أتباع علي (عليه السلام) القتال معه في صفين لانتهى معاوية، في تلك المعركة ، ولسقط سياسياً كما سقطت عائشة سياسياً في معركة الجمل .

وبعد ذلك عندما واجه علي (عليه السلام) الدهشة من قبل أتباعه في مسألة التحكيم ، كان لعلي (عليه السلام) رأي في الحكم الذي يختاره من قبله ، ولكن أتباعه عينوا حكماً آخر غير قادر على مواجهة الحيل التي كان يرتكبها معاويةوأتباعه وكان - نتيجة لذلك- أن تمرد الخوارج وحصل ذلك الشرخ في صف المسلمين وافسدوا على الإمام رأيه - كما عبر-.

وهذا كله ينبؤنا عن أن هؤلاء الناس لم يكونوا في درجة من التسليم والخضوع النفسي والقلبي لعلي (عليه السلام) ، بحيث يحركهم في الاتجاه الصحيح الذي يراه (عليه السلام) ، وبالتالي يحقق بهم الأهداف النبيلة التي كان يتوخاها (عليه السلام) .

صلح الإمام الحسن(عليه السلام):لنختصر المسافة وننتقل مباشرة إلى زمن الإمام الحسن حاملين معنا كل هذه الأخطاء..عندما نتكلم عن فترة الإمام الحسن(عليه السلام) تبرز فيه قضية الصلح مع معاوية..تميّز الامام الحسن عن بقية أهل البيت (عليهم السلام) في أنّه كان حاكماً، وكان إماماً مفترض الطاعة مبسوط اليد ، فهو الخليفة الذي جاء بعد أبيه، وبذلك خضعت له(عليه السلام) كل المناطق التي كانت تخضع للإمام علي(عليه السلام).إلاّ أنّ الظروف السياسية اختلفت وتغيرت بحيث اضطرت التقلبات السياسية إلى أنْ يهادن شخصاً آخر !!لقد اتسم موقف الإمام الحسن(عليه السلام) بالتعقيد وتشابك الحلول ، وخلاصته هي: أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) كانت بيده جماجم العرب ـ كما ورد في بعض الروايات عنه(عليه السلام) ـ عندما تحداه معاوية وكانت تحت يده جيوش، وبعضها على استعداد للقتال ، كما هو الحال في جيش قيس بن سعد بن عبادة، ولكن الإمام الحسن(عليه السلام) ـ وبسبب الظروف السياسية التي وجدت منذ زمن الإمام علي(عليه السلام) ـ فضّل أنْ يقدم المصالح الكبرى للمسلمين على مصالحه الخاصة.وانتقد موقفه بصراحة ، وأساء بعضهم الأدب حين خاطبه بقوله: “السلام عليك يا مذل المؤمنين”.  إلاّ أنّه بيّن ان الدافع هو مراعاة المصالح الكبيرة ، وهذه المصالح نحتاج أنْ نفتش عنها في كلمات الإمام الحسن(عليه السلام)، ونفتش عنها في التأريخ الإسلامي، وفي حركة الإمام الحسن(عليه السلام) وفي النتائج التي ترتبت على هذه الحركة، وكيف تمكن(عليه السلام) أنْ يحقق هذه المصالح.

الامام الحسن يناور الدهاء الاموي

وهناك جانب آخر في موقفه السياسي، فبعد الهدنة كان على الإمام الحسن(عليه السلام)أنْ يواجه صراعا ً مع معاوية بامواله وقدرته وسلطته وكل خبرته ونفاقه العريق وتجاربه السياسية القديمة بالاضافة الى التي ورثها عن عائلته ايام الجاهلية وبعدها . ووراء معاوية زعماء القبائل الذين استهوتهم الأموال الطائلة وكذت من كانوا على استعداد لبيع ضمائرهم وخبراتهم وإمكانياتهم وعلومهم في سبيل الحصول على الأموال والجاه والمواقع.

ولذلك نجد أنّ قضية ما يسمونها بالخلافة الراشدة ـ في العرف السياسي العام لدى المسلمين ـ تنقطع عند علي(عليه السلام) .وبذلك تمكّن الإمام الحسن(عليه السلام) أنْ يوجد فاصلاً بين معاوية وبين لقب(الخلافة) الذي كان يريد أنْ يحققه معاوية لنفسه، وبقي هذا الفاصل قائماً وموجوداً.

الجانب الاخر من الصراع كان مع الأنصار والأصحاب القريبين منه، وهم أولئك الذين احترقت قلوبهم من هذه الهدنة، ولم يفهموها، فكانوا يأتون إلى الإمام الحسن(عليه السلام)وينتقدونه امامه او من ورائه، من باب الحرص، وحب الامام ومن باب الإخلاص للقضية، ولكنهم لم يكونوا قادرين على استيعاب هذه القضية، وهذا ما نراه في كثير من الأحيان.

قد نفهم من ذلك ومن آية(قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى‏ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) إن ليس كل ما يقوم به القائد الضالع بالقضية المتصدي لها يمكن أن تفهمه القاعدة بشكل تام ،فكان على الإمام الحسن(عليه السلام) أنْ يقنع هؤلاء ويوضّح القضية لهم، ويكسبهم وينظمهم بحيث يهيئهم لأنْ يكونوا الجماعة الصالحة القادرة على مواصلة الطريق، والاستمرار في هذا المنهج ، فكان لهذه الجماعة دور عظيم جداً في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)، وفي الثورات والنهضات التي جاءت بعده(عليه السلام.

الصراع الثالث كان مع الخوارج الذين قتل الامام علي منهم في النهروان جماعة كبيرة حتى تمكنوا من قتله عن طريق عبد الرحمن بن ملجم .. وقد فشلوا في اغتيال الامام الحسن في المدائن بعد ذلك. فيما بعد حاول معاوية أنْ يغري الإمام الحسن(عليه السلام) في أنْ يدخل في حرب مع الخوارج، الا انه عليه السلام عرف كيف يوازن في العمل السياسي معهم.

هكذا تمكّن الإمام الحسن(عليه السلام) من الصمود والاستمرار والبقاء، ولذلك بقي(عليه السلام)محبوباً لدى جميع المسلمين، ومن يرجع إلى التأريخ يجد ذلك، كما في تأريخ ابن عساكر عندما يتحدث عن تأريخ دمشق فهو يتحدث عن الإمام الحسن(عليه السلام)، ويذكر روايات في شأنه وعظمته وحب الناس له، بدرجة حتى أنّ الوالي الأموي كان يوالي الإمام الحسن(عليه السلام) رغم أنفه.

وهذا شيء عظيم جداً في العملية السياسية، وهو أنْ يدير الإمام(عليه السلام) عملية سياسية فيها جبهات متناقضة، لأنّ كل جبهة تنقض على الأُخرى، فأصحابه جبهة مناقضة لجبهة معاوية، وجبهة الخوارج مناقضة تماماً لجبهة الحالة الإسلامية العامة، فالخوارج كانوا دائماً في حالة رفض وقتال وثورة، والذي نعبر عنه الآن بحالة التطرف والإرهاب، في مقابل الحالة الإسلامية التي تريد الأمن والاستقرار.

فكانت هناك جبهات متناقضة ومتعارضة وكان على الإمام الحسن(عليه السلام) أنْ يدير هذه العملية بشكل دقيق، ثم يخرج منها بنجاح ونصر، فيسقط أُطروحة معاوية من ناحية، ويجمع أصحابه ويؤلف بين قلوب المسلمين، ويبقى يعيش معهم ويؤثر فيهم دون أنْ يدخل في صراع مباشر مع الخوارج من ناحية أخرى. وبهذا تمكّن الإمام الحسن(عليه السلام) أنْ يحفظ هذا التوازن، وأنْ يحقق الانتصار، وهذا هو الذي جعل خط أهل البيت(عليهم السلام) يسير وينمو ويتكامل على مرّ الزمن، ويصبح خطاً قوياً في مضمونه الروحي والعقائدي والسياسي، وكل هذه العوامل وضع الإمام الحسن(عليه السلام) خطها السياسي بعد الإمام علي(عليه السلام)، وكان له هذا الموقف والمنهج العظيم.

إرهاصات لإستئناف الوحي

ها نحن الآن في السنة 60 للهجرة النبوية المباركة وها هو الحسين بن علي ينظر بعين ملؤها القلق على دين النبي بعد هذا الإرث الثقيل والتركة المجهدة من الأخطاء التي توالى على ارتكابها من ناوء (جمهورية النبي ) -حسب تعبير الباحث عبد الرزاق الجبران - وهاهو أمام مهزلة الأخطاء المتعمدة من الخط الذي يرى في تولي تيار عليٍ للحكم ، حكماً بالإعدام لكل ما خططوا له وبذلوا ما بذلوا من اجل سحب البساط من تحته ..

هنا يبعث يزيد إلى كل عماله في كل الأماكن بان يأخذوا البيعة له ويرسل إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة يقول: خذ البيعة من عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي أخذاً شديداً، ومن أبى فاضرب عنقه وابعث برأسه إليَّ وحين أتى ليأخذ البيعة من الحسين ،انتفض الحسين واعترض فانتشر حراس العامل في كل مكان وأعلن عامل المدينة انه جاء باثنين لا ثالث لهما : إما أن يأخذ البيعة ليزيد أو يأخذ رأس الحسين فقابله الحسين عليه السلام: إنَّ ( مثلي لا يبايع مثله) ،ثم ابتدأ عليه السلام بوضع خطة متكاملة بعد ان رجح عليه السلام الخيار الثاني لأسباب موضوعية منها :

1 - ما يعبّر عنه الفقهاء بالتهديد الحقيقي لبيضة الإسلام فلقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يشعر أنّ العقيدة الإسلامية أصبحت مهددة تهديداً حقيقياً. فرغم عنجهية معاوية وجرمه إلا انه لم يتحرّش بالقضايا والشعائر الإسلامية بشكل علني ومفضوح كما حدث في فترة حكم يزيد، ومن هنا يقول الإمام الحسين عليه السلام عن يزيد: إنه "معلن بالفسق "والخطر يكمن في إن هذا الإنسان سيتولى خلافة المسلمين، ويتصرّف في كل شؤونهم.ومن النصوص التي تدل على هذه الحقيقة: خطبة يزيد بن مسعود النهشلي عندما تحدّث إلى بني تميم ودعاهم إلى أن يكونوا إلى جانب الإمام الحسين (عليه السلام) و خطبة سليمان بن صرد الخزاعي عندما تحدّث إلى أهل الكوفة ودعاهم إلى نصرة الحسين (عليه السلام)، متحدثاً عن المحرمات التي يرتكبها يزيد.

2 - سياسة "الاستباق" التي يتبعها نظام يزيد في قمع كل تحرك سياسي للآخر ويمكن أن نعرف ذلك من خلال السنوات الثلاث التي حكم فيها يزيد، ففي السنة الأولى قتل الحسين (عليه السلام) في كربلاء ثم تبعه بتصفية شاملة في الكوفة، وفي السنة الثانية أباح المدينة التي تمثل موطن أصحاب النبي والتابعين، وأخذ منهم صك العبودية مستثنياً علي بن الحسين (عليه السلام) وأهل بيته!! وفي السنة الثالثة هدم الكعبة .

3 - التحرك الشعبي العام في الأُمة بعد موت معاوية، حيث حصل تحرك جماهيري حول الحكم الإسلامي والقيادة الشرعية، ويقيم على القيادة الحجة أمام الله سبحانه وتعإلى، حتى لو فرضنا أن القيادة تدرك أن هذا التحرك لا يمكن أن يصل إلى أهدافه المعلنة، إلاّ أنّ هذا التحرك سوف يترك مخلّفات وآثاراً على مجرى التأريخ، بخلاف ما لو أهملت القيادة التحرك الشعبي، وبالتالي فسوف يصاب التحرك بالإحباط، ليس فقط على مستوى الأخلاق والسلوك، وإنما على مستوى المبادئ والمثل، وبالتالي يتغير منظور الناس حول الحكم الإسلامي والخلافة فالرسائل التي كتبت للحسين (عليه السلام) - على ما في بعض الروايات - كانت (40 ألف) رسالة. إنّ الاستجابة الشعبية والوعي الشعبي للثورة ضد النظام والحكم أخذت تتطوّر.

4 - ما أشار إليه الحسين (عليه السلام) في الكثير من رسائله أيام حكم معاوية وبعده، وهو حالة تخلخل الوضع السياسي، الذي كان يتمثّل بموت معاوية واليكم بعض الأمثلة :

- موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان من الحسين (عليه السلام) حيث كان متردداً؛ يقول لمروان : إني لا أُريد أن أقدم على الله تعالى وفي رقبتي دم الحسين (عليه السلام) وأكون خفيف الميزان.وعندما فهم الوليد أن الحسين (عليه السلام) قد خرج من المدينة شعر بحالة من الارتياح والاستقرار، لأنَّه تخلّص من ورطة الدخول مع الحسين (عليه السلام) في معركة.- موقف والي مكة عمر بن سعيد بن العاص(الأموي)الذي أرسله يزيد بشكل خاص من أجل التعامل مع قضية الحج، حيث كان يطلب من الإمام أن لا يخرج إلى العراق وسوف يقوم بتأمين كل شئ له .كان بمقدور عمر بن سعيد أن يقتل أو يسجن الحسين لكنه غير مطمئن للوضع السياسي فلربما سوف يستقر لصالح الحسين!- موقف والي الكوفة الذي رحب بعبيد الله بن زياد اشد ترحيب معتقدا ً انه الحسين متوسلا ً إليه أن يذهب إلى حال سبيله مما دعا عبيد الله الى ان يسبّه ويشتمه، ويقول له: افتح لا فتح الله عليك، أنا فلان وليس الحسين.إذاً كان هناك تخلخل سياسي واضح على الساحة والولاة لا زالوا غير مطمئنين للوضع ولا يعرفون أ يّـاً من الكفتين سوف تترجح؟!

وحالة التخلخل تمثل فرصة ذهبية مع توفر الشروط السابقة التي أشرنا إليها، لكي تتحرّك القيادة في مواجهة النظام الحاكم، فتمكّن الحسين (عليه السلام)- نتيجة للتخلخل الموجود - أن يؤثر بشكل فعّال على نظام آل أبي سفيان، ونجد أن هذا النظام ينتهي، ونجد أن مروان بن الحكم يذهب بعد موت يزيد ويبايع عبيد الله بن الزبير، نتيجة للشعور بأنّ هذا النظام نظام متهاوٍ.

ونحن إذا أخذنا هذه الشروط الأربعة نجد أن الحسين (عليه السلام) كان يواجه حالة تفرض عليه من الناحية الإسلامية والدينية، باعتباره إماماً وقائداً ومسئولاً أمام الله سبحانه وتعإلى، أن يثور في وجه هذا الحكم ويتحرَّك.وخطط لان يكسب الرهان بعد وصوله إلى حتمية استشهاده عليه السلام ولتثمرَ شهادته على مدى التأريخ فخرج من "باب الشوك" ولم يخبر أحدا ً سوى أخيه محمد بن الحنفية وسار بأهله ليلا ً مصطحبا ً كل من يتوقع أن يكون له دور في الانتصار من أطفال ونساء ورجالات حرب وإعلام فدخل مكة في الثالث من شعبان بعد 58 عام من ولادته وبقي فيها إلى يوم التروية (8 ذي الحجة) واختار مكة - ربما - للأسباب التالية :

1 - لانَّ من دخلها كان آمنا ً فيبقى في أمان إلى أن يحين وعد العمل بالمرحلة الثانية من خطته وهي مرحلة الاتصال المباشر بالأُمة من خلال موسم الحج ووفود الناس على مكة.2 - لعمل تغيير في ثقافة من يأتي إلى مكة ولعمل رأي عام ضد السلطة لمن لم يتكشف لهم الأمر بعد.3 - لكون مكة محل لاجتماع كل المسلمين من كل أصقاع الأرض فتكون الفرصة أفضل لإيصال رسالته لأكبر عدد من الناس.ثم جاء يوم التروية راكبا ً في قافلة وأمام كل الناس وليس سرا ً ليعلم كل الناس فتعجب الناس اشد تعجب لتحرك الإمام وغداً أفضل يوم؟! هذا ما يدعوهم إلى الاستفسار عن سبب التحرك وعن توقيت التحرك وعن دواعي أخذ العيال والأطفال وعن سبب ترك الإمام موطن أجداده والتوجه إلى الكوفة.فكان الإمام يخبرهم أنني ابن رسول الله والإرهاب الأموي يريد أن يستبيح الكعبة بقتلي فيها وحفاظاً على قدسيتها سوف أغادر إلى العراق بلغوا سلامي لكل أبناء وطنكم ... وعندما عاد الناس إلى أوطانهم ابلغوا كل من زارهم للتهنئة بالحج بقضية الحسين وبدون شعور وأصبح الكل مندوباً صحفياً للحسين عليه السلام.ولكن - وكما أوضحت سالفاً- لم يكن للأمة إرادة قوية لنصرة الحق .

وهكذا النصوص التي تتحدّث عن الحسين (عليه السلام) عندما كان في مكّة المكرّمة، ودخول الناس عليه، سواء من مكة أم من أولئِك الذين جاءوا للاعتمار في شهري رجب وشعبان، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن مكة تعتبر من المدن التي لم تكن توالي أمير المؤمنين (عليه السلام)، والسبب واضح; لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قتل الكثير من شخصيات المشركين في المعارك الأولى في صدر الإسلام وفي زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، فكانت لهذا انعكاسات نفسية على أهل مكّة.

وكان لأهل مكة دور كبير جداً في معركة الجمل ضد أمير المؤمنين (عليه السلام)ومع ذلك نجد أن المكّيين يتحرّكون بشكل جماهيري لتأييد الحسين (عليه السلام)، ويتحرّك من يأتي لمكّة من المعتمرين.المرحلة الأخرى : قام الإمام سلام الله عليه بإرسال رسائل إلى رؤساء الأقوام والكبار في المجتمع الإسلامي كافة وذلك لـ:

1 - توضيح الأمر الواقع والخطر المحدق والمتغلغل في الأُمة .2 - بيان فساد بني أمية ومنهجهم البذئ ونيتهم لقتل ابن رسول الله.3 - إتمام الحجة على المسلمين وغيرهم.4 -جمع قوات من المناطق التي تصلهم رسائله عليه السلام وهذا سوف يثمر:5 - تحرك أهل من يقتل معه عليه السلام للأخذ بثأره ومجافاة بني أمية على اقل تقدير وهذا سوف يولد - بمرور الأيام - هوة سحيقة بين الحكومة الجائرة وبين الجماهير .6 - من لم يستشهد مع الإمام سوف ينقل مظلوميته عليه السلام مما يؤدي إلى فضح ما يخفيه بنو أمية وما يعتم عليه الأمويون إعلاميا ً.وبعيدا ً عن السرد التأريخي - لان بحثنا هذا ليس كذلك - لسائل أن يسال:لماذا قام الإمام الحسين وما هذا التحول في موقفه عليه السلام وهو الذي عاصر أخاه الإمام الحسن ووافقه - مع بقية من وافق من أصحابه- على صلحه مع معاوية؟لماذا لم يعترض - وهو الإمام المعصوم الذي لا يسكت على الخطأ - إذا كان النهوض ضد الظلمة هو خياره؟هل قَبِلَ الحسينُ الصلحَ تعبُّداً برأي إمام زمانه؟ إذاً هناك عوامل أدت إلى هذا التحول التأريخي في موقف الإمام الحسين عليه السلام.. فما هي هذه العوامل الصارمة؟

لقد مثلت حركة الإمام الحسين استمرارا ً لمواجهة الأنبياء لعمليات السقوط المتكررة التي تعيشها الأمم.هناك مجموعة من الشواهد التأريخية تؤكد أنّ الأُمة الإسلامية كانت تتعاطف مع حركة الحسين(ع).وليس بعيدا ً عنا رسائل أهل الكوفة وموقف أهل البصرة وأهل اليمن والمدينة ومكة، فهذه المواقف وإن لم تظهر على سطح الأحداث مرّة واحدة، إلاّ أنّ العالم الإسلامي شهدها متسلسلة ومتأثرة بموقف الحسين(ع) في فترة لا تتجاوز الخمس سنوات.

أما القائد فهو الحسين بكل خصائصه ومميزاته الشخصية والاجتماعية والتأريخية الفريدة التي لم تجتمع في غيره ثم أن من يمثل الخصم المناوئ هو يزيد والمعروف على نطاق واسع بقتل النفس التي حرم الله والاستهتار بالقيم الإنسانية بالإضافة إلى أنه قليل الخبرة في الحكم وليس كمعاوية ذي التجربة الطويلة، الذي تمكن من إدارة الأُمور من خلال المعرفة والدهاء الذي كان يتمتع به.

يذكر السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قده) ثلاثة عوامل يعتقد أنها أدت إلى أن يقوم الإمام الحسين بهذا التحول الكبير الذي أحدثه سنة 61 هجرية :

الأول :عملية التضليل التي ابتليت بها الأُمة: لقد تمكن معاوية - بسياسته ودهائه- ومن خلال خطط وضعها أن يقوم بعملية تضليل واسعة للأُمة الإسلامية بشكل عام، والتأريخ يحدثنا عن مجموعة من الخطط التي وضعها معاوية والتي ترتكز على منهج إعلامي، من جملتها:

أولا: تسقيط شخصية أمير المؤمنين (ع) الذي يمثل خط الحق ومنهجه بوضع الأحاديث وما أشبهها لذلك.ومما قام به معاوية في هذه الخطة هو سبُّ علي(ع) على المنابر و في خطبتي جمعة تحديدا ً.

ثانياً: الدعاية لخط عثمان الذي كان يمثل خطاً ومنهجاً أيضاً في تعامل الحكم مع الرعية. إنّ المنهج الذي اتبعه عثمان هو إعطاء الإمكانات والقدرات التي تملكها الدولة الإسلامية بيد أشخاص معدودين يمثلون أزلام الخليفة ويلتفون حوله، مما يعني إيجاد طبقة بيدها كل الإمكانات والقدرات التي يملكها العالم الإسلامي، سواء على المستوى المادي أم مستوى السلطة أم مستوى الجاه والعلاقات الاجتماعية.  وهذا المنهج يختلف عن منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) تماماً.فمعاوية كان يدعو إلى تعريف عثمان و منهجه لاعتباره منهجا ً رسميا ً يلتزم به المسلمون ويؤمنون به.

ثالثاً: التعريف بالصحابة الذين كانوا يرتبطون بجهاز الحكم وبالخلافة كنخبة صالحة مسلّمة بأحكام الإسلام، وعارفة به وبكل خصوصياته،مما خلق مفهوماً تؤمن به الكثير من عقليات المسلمين.وقد دعم معاوية خطته هذه بأُسلوبين:

الأول: وضع الروايات على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تدعو المسلمين للخضوع والتسليم للحاكم مهما كان ظالماً وجائراً.

الثاني: إيجاد علماء السوء لإصدار الفتاوى حسبما يشتهي الحاكم .

العامل الثاني: هو القمع الذي واجهته الأُمة من قتل وسجن وتعذيب.

فهذا المنهج هو من المناهج التي ابتدعها معاوية، فعثمان في زمنه -مع المفاهيم التي خلقها -إلاّ أنّ القمع لم يكن موجوداً إلاّ على مستوى نفس الأشخاص المعارضين للسلطة، كما حدث بالنسبة إلى أبي ذر الغفاري - مثلا - وإلى بعض الصحابة.

أما القتل والسجن وأخذ العائلة والأهل بجريرة المعارضين فلم يكن موجوداً إلاّ من خلال المنهج الذي وضعه معاوية، والذي أخذ يتفاقم ويبلغ القمة في زمن يزيد بن معاوية. وهذا الأمر هو ما نراه جلياً في رسالة الإمام الحسين(ع) إلى معاوية التي يردُّ فيها على رسالة معاوية المعروفة التي يحذّره فيها من الثورة والنهوض ضدّه. فقد أجاب الإمام الحسين(ع) على رسالة معاوية وأكّد على هذه الظاهرة عندما ذكر حجر بن عدي وأصحابه، وعمر بن الحمق الخزاعي.

فقال فيها الحسين(ع): إني أستغفر الله سبحانه وتعالى على عدم الثورة والنهوض في وجه معاوية بعد مشاهدة الجرائم التي يرتكبها في حق المسلمين. ومنهج القمع هذا نشاهده أيضاً عند دخول عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فقد قام بأعمال قمعية لإيجاد حالة من الرعب والخوف في نفوس الناس.

وأبرز مظاهر القمع التي مارسها عبيد الله بن زياد هي:- قتله لهانئ بن عروة و مسلم بن عقيل(ع).- القرار الذي عمَّمه - أو الحكم - على كلّ السلطات والأجهزة البوليسية التي كان يملكها.يقول النص التأريخي: “وأخذ عبيد الله بن زياد العرفاء بالناس أخذاً شديداً ،فقال: اكتبوا إلى العرفاء ومن فيهم من طلبة أمير المؤمنين ومن فيهم من أهل الحرورية - الخوارج - وأهل الري الذين شأنهم النفاق والشقاق، أنّ من يأتي لنا بمن يخالفنا فهو بريء لا يؤاخذ بشيء، ومن لم يكتب لنا فليضمن لنا من في حراسته أن لا يخالفنا منهم مخالف ولا يبغي علينا باغ. ومن لم يفعل برئت منه الذمة، وحلال لنا دمه وماله. فأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا، صلب على باب داره وأُلغيت العرافة كلّها من العطاء”.

العامل الثالث: هو شراء الضمائر بالمناصب والأموال: وقد طرح يزيد ذلك في أول يوم استلم فيه السلطة وتحدث عن برنامج عمله، فلم يتحدث عن الإصلاحات والأعمال التي سوف يقوم بها في المجتمع الإسلامي، وإنما طرح في خطابه الرسمي الأول أنه سوف يوفر العطاء لهم ويعطيهم الكثير من المال. فكان يقول: “لقد كان معاوية يغزيكم في البحر ولست حاملا أحداً من المسلمين في البحر، وكان بأرض الروم ولست حاملاً أحداً بأرض الروم، وكان يخرج عطاءكم وأنا أجمعه لكم كله”.

وفي أول خطبة لابن زياد في الكوفة طرح فيها نفس المضمون، حيث يقول: “... وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ويغنيهم بالأموال، وقد زادكم في أرزاقكم مئة مئة، وأمرني أن أوفرها عليكم وأُخرجكم إلى حرب عدوه الحسين، فاسمعوا له وأطيعوه”. وقد جعل ملك الري هدية لقائد الجيش الذي يقاتل الحسين عليه السلام.

العامل الرابع: هو إحساس الأُمة بالضعف والعجز أمام القوى الكبرى العظمى. وأحد أمثلة ذلك هو خوف أهل الكوفة - بشكل عام - من جيش أهل الشام. إنّ تاريخ أهل الكوفة فيه مجموعة من الأحداث تدلل على أنهم دائماً كانوا يشعرون بالخوف والهيبة من قوة عظمى، وهي جيش الشام، باعتبار تجربة أهل الكوفة مع أهل الشام في صفين وما بعدها، واحتلال جيش الشام للكوفة وإذلال أهلها.

وهذا ما ظهر واضحاً في قضية الحسين(ع)، فعندما قتل هانئ بن عروة وخرج مسلم بن عقيل لتطويق قصر ابن زياد، كان التهديد الذي واجهه أهل الكوفة في تلك الليلة وأدّى إلى تفرقهم عن مسلم(ع) هو أنّ جيش الشام سوف يأتيهم وليس باستطاعتهم مقاومته، فالحديث يقول: إنّ شخصاً اطلع على أهل الكوفة من وراء جدار القصر وقال لهم: إنّ جيش الشام سوف يأتيكم، فما كان إلاّ أن يأتي الأخ إلى أخيه والزوجة إلى زوجها يدعوهم للانصراف خوفاً من جيش الشام.

ويتكرر ذلك أيضاً في زمن الحجاج بن يوسف في حركة عبد الرحمن بن الأشعث التي هددت السلطة الأُموية، حتى إنّ عبد الملك بن مروان كان يشعر بالخوف منها على قدراته وإمكاناته، إلاّ أنّ هذه الحركة قوضت عند التهديد بمجيء جيش أهل الشام. فالإحساس بالضعف وبأنّ هناك قوة عظمى لا يمكن أن تقاوم وتغلب كان أحد القضايا التي واجهها الحسين(ع) وكان لها تأثير سلبي كبير جداً في حركته.

عندما ندخل في تحليل هذا الموضوع نجد هذه العوامل الأربعة تظهر في عدة مقاطع من تاريخ المسلمين، منها أيام الحجاج بن يوسف الثقفي، وأبي العباس السفاح أول خليفة لبني العباس وبعده المنصور الدوانيقي. ونجد هذه الظاهرة أيضاً واضحة في زمن المعتصم العباسي، وبعد ذلك في زمن المتوكل العباسي.

* استفدت كثيرا ً في هذه المقالة من ملاحظات كنت قد سجلتها عن استاذنا السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قدس) وكذلك عن استاذنا الشيخ محسن قرائتي.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك