مصطفى الهايم
هكذا نحن .. سومريون .. طيبون .. جنوبيون .. مبدعون ..
عفويون بكل شي .. وفي النهاية نحن .. شروكية .. سمنا ما شئت صفنا بما يحلو لك .. فنحن .. نحن .. هو ذا حالنا معهم بل فيهم .. كحال السمك .. مأكول مذموم .. وحتى هذا المثل كأنه لم يأتي اعتباطا .. فالسمك يولد من رحم مياه الهور الذي يجاور قريتنا منذ مئات بل الآف السنين .. مذ كان (زيو سودا) حاضرا وشاهدا على تلك البقعة الساحرة من الأرض .. فقريتنا التي تقع أقصى جنوب القلب .. نسجت من دخان تنانيرها الطينية التي يوقد نارها (المطال) ذو النكهة الخاصة اروع الصور الإنسانية وتعاليم الحياة .. قوانين سنتها قريتنا .. وكأنها كانت تقف امام حمورابي وتصرخ بوجهه قائلة له : لا حاجة لنا بقوانينك .. فقريتنا سنت قوانينها قبل عصرك بين أروقة القصب والبردي .. وانسياب (المشحوف) وهو يسير بهدوء وسط مياه الهور التي تفتح له ذراعيها مع كل (دفعة مردي) ..
و على أنغام ثغاء الماعز ورغاء والأغنام وهي داخل (لمراح) أو(المحصار) المحاط بكلابنا الوفية الساهرة و نباحها المتقطع خشية اقتراب (الحرامية) المتخصصين بسرقة الماشية بعد منتصف الليل .. و(حرامية قريتنا) يتحلون بصفات منها المروءة وعدم (دوسة البي) الذي يأكلون من طعامه أو حتى يشربون من ماءه .
..و بين لهفة انتظار لحظات اكل (السياح والبيض) صباحا و (الطابك والسمك) ظهرا
.. ووسط استمرار دق الهاون وصوته المتعالي وهو يسحق حبات القهوة ذات الشكل الكروي ويطحنها ويحيلها إلى مسحوق بني اللون .. بينما كانت جدتي التي تضع على رأسها (شيلة) وهي قطعة طويلة من القماش الاسود تقوم بلفها بشكل هندسي جميل تمارس طقسها اليومي دون اي كلل او ملل ..حيث تحمل بيدها مساء كل يوم ماعونا صغيرا مصنوع من مادة الفافون كي (تطكطك الحرمل) قبل مجيء الغروب .. .. لتطرد الشر والجن وتبعد الحسد وتجلب الخير والبركة للعائلة .. وكان حمار جدتي مربوطا في مكان يبعد قليلا عن (السوباط) وهو عبارة عن سرير طيني ينام عليه أفراد العائلة.
وفي ذات يوم مشمس ارتفعت فيه درجات الحرارة وبلحظة مفاجئة جاءت من جهة الشمال نسمات هواء باردة (هوه عذيبي) وكأنه نداء المدينة .. فأستجاب اهل القرية له وقرروا الذهاب نحوه .. دفعتهم الحاجة للمغادرة وترك القرية وكل ما فيها .. انه قرار مصيري وصعب .. اتخذه كبار القوم .. فاتجهوا من مملكة العمارة نحو العاصمة بغداد .. لم يكن امامهم بعد الوصول إلى ديار الغربة سوى السكن في (عرصات) وهي منازل عشوائية بنيت من مادة الطين .. الذي لم يكن غريبا عليهم بل خفف عنهم كثيرا وطأة الغربة .. استذكروا حينها (زيوسودا) الذي لم يقدم لهم ما قدمه زعماء وسلاطين أهل العاصمة التي قصدوها .. كانت(الجا) رمز لهجتهم الشروكية
تقابلها (لعد) البغدادين ..
بدت أشبه بالمعادلة الصعبة
(جا) متجذرة و (لعد) متحضرة .. كان أشبه بالصراع الذي يدور بين حضارتين.. صراع بين زيوسودا وملوك جدد .. عقود مرت وأصبحت ( الجا) تعلو بل تسمو فوق تعاليات (لعد) .. عقود مرت وطيبة اهل القرية ومنجزاتهم بدأت تنتصر على عنجهية بعض اهل المدينة وتزيل غرورهم وفوارق بيوت الاسمنت الطبقية التي كانوا يسكنوها ومنحها لهم حكامهم وسلاطينهم .. فأهل المدينة يختلفون كليا عن أهل القرية حتى في (حراميتهم)
.. (فحرامية) المدينة ليس لديهم مروءة ولا يراعون أحد ولا يضعون حرمة لأحد يسرقون المنزل الذي يأكلون ويشربون فيه ..
فراح اهل القرية يرددون
(حتى حراميتنا أشرف من حراميتكم)
ومع مرور الأيام وتقادم السنين.. واذا بالشروكية يكنون انفسهم في خضم هذا الصراع بولد (الملحة) ما زاد من إصرارهم وعزيمتهم على مواصلة النصر واحالة المدينة إلى قرية منتجة بلباس جديد تطرزه (الجا) لكن هذه المرة بدون رائحة دخان (المطال) الكثيف .
https://telegram.me/buratha
