محمّد صادق الهاشميّ
شرع مساء يوم اثنين رجال الأمن يحشون قاعات السّجن بالسّجناء ، فيضيفون إلى أعدادنا أعدادا أخرى ، وهكذا في كلّ يوم ، فاكتظت الزّنزانت بل الممرات.
وضبّاط الأمن تتعالوى أصواتهم وهم يسوقون السجناء الجدد بكلماتٍ نابيةٍ : «...كذا من أختك...خونة..علّقوه.... كلاب.... » ، وبعدها يتمّ إدخالهم معنا في الأمن العامّة.... الشّعبة الخامسة .
لا أدري ما الحادث ؟ ، وكان الكلّ منّا يضرب الأخماس لأسداس ، ونترقّب أنْ ينزلوا بنا أيضا عذابات جديدة ، كما هو شأننا مع كلّ وافد جديد ، لا ندري ما الذي حدث ، وما هو ، وكنّا مصداقاً حقيقيا لقوله تعالى : {... وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً} .
أرهفت السّمع ... سمعتهم يرددون: الأسماء التالية : «طارق، والحسينيّ ، والهاشميّ, وحجّي مهدي , وحسن , وحاج رفعت» ، جِيء بهم ، ضربوهم حتّى تمزّقت أجسادهم ، وأخذت الدماء تشخب من أوردتهم ، ونحن نسمع صراخهم ، يطلبون منهم الاعتراف على شخصيّة اسمها : «علي الحسينيّ الهاشمي»، وكان ذلك بالنّسبة لنا أشبه بالكلمات المتقاطعة ، إذْ لا ندري منْ هو المقصود من ذلك الشّخص المطلوب أنْ يعترف هؤلاء المؤمنون عليه ، وأنْ يدلّوا على مكان تواجده .من هذا الرّجل المهمّ في نظر هؤلاء المجرمين ؟.
وكنّا نسمع سؤالين يرددهما رجال الأمن عليهم : ماهو دورك في المؤامرة؟ ، وأين «الحسينيّ»؟.
ثمّ انكشف لنا الحيرة ، وحُلّ اللّغزّ الذي بقي خفيّا علينا لفترة ، حينما أودعوهم الزّنزانات معنا وانتشر خبرهم بيننا : أنّهم ضبّاطٌ من القوّة الجوّية كانوا معتقلين معنا في زنزانات مغلقة ، وكانوا قادة كبار في الجيش، ومسؤولين رفيعي الدّرجة .
وكانوا يبعثون عليهم لنفس هذا التّعذيب والتّحقيق يوميّاً ، والصّمود منهم هو الصّمود ، كأنّهم جبال لا تهزّهم الرّيح العواتي ، قال تعالى : {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 7، 8] .
وعرفت بعد ذلك أنّ هؤلاء المؤمنين كانوا من أهالي ديإلى (الجيزاني) يريدون الانتقام والثأر لكلّ المحرومين والمظلومين ، وأنْ يخلّصوا العراق من الكابوس الرّهيب ، وقد نمى لديهم الحسّ الوطني ، وتعاظم الشّعور بالمسؤولية فقرروا مع «الحسينيّ ، والحاج أبومهدي أو أبو زينب الخالصيّ (رحمه الله) المضي قدماً لإنقاذ العراق من حزب البعث، فتناخى الشّرفاء ضبّاطاً وفلاحين وكلّ القوى المؤمنة للقيام بثورةٍ وبعمليةٍ عسكريةٍ ، وكان أغلب هؤلاء من ديالى .
كان الرّأس المدبّر فيهم - فيما علمت - هو السيّد : «عليّ الحسينيّ ، والحاج أبو مهدي الخالصيّ (رحمه الله)», وإنّي لا استطيع أنْ أروي ما جرى لهؤلاء فرداً فرداً ، فإنّ الذي يفصل في حياة هؤلاء من دون أن يعرفهم حقّا ، وخصوصا وأنا أسمع بأخبارهم من السّجناء ، دون أنْ ألتقي بهم ، وكانت تلك الأجواء لا تسمح أنْ يبيح السّجين سرّه لأخيه ، فلو قلت في حقّهم شيئا فأنا كالذي يعدّ قطرات البحر، لكنّي شهادتي لهم بكلّ إجلال وإعطام وإكبار : أنّهم عظماء بصبرهم وثباتهم .
وأتذكّر أنّه نقل لي عن أحدِهم (حسن) أنّه كان كثير الشوق ليعرف خبر زوجته التي تركها حاملاً، ونقل عن انّه آخر يتمّنى أن يودّع أمّه ؛ لأنّها كانت تنتظره كلّ يوم عودة له على الطّريق العامّ، فكيف يكون موقفها وصبرها لو استلمته جثّة هامدة .
نعم كانت يد الأقدار وقرار البعث الكافر يستلّ أرواحهم رويداً ، ففي كلّ يوم من خلال التعذيب المتكرر والسّياط وقلع الأضافر وإيقاف البعض منهم أيّاماً مسندين إلى جدار الموت وآخرين معلّقين على السّقوف والدّماء تنهمر... والقيح يتجمّد... مضت أشهر وهم هكذا.... حتّى أنّ الأغلب منهم لايمكنه أنْ يتناول شيئا بيده من شدّة ما وقع عليهم من تعذيب ، فكانوا يلقون إليهم الطّعام على الأرض ليتناولوه منها بأفواههم .
بعدها جاء ملازم (عدنان) ، ورائد (عامر) ... وأخرجوهم. وكلمات : الخونة... أخوات الكذا... أولاد الكذا ، تنطلق من أفواههم القذرة بوحشية مرعبة ...كلّ هذا مع الهراوات... وانطلقت بهم السيّارات إلى المجهول ، علمنا في ما بعد أنّه الرّحيل إلى الرّاحة الأبدية ، والخلاص من هذا العذاب ، واللقاء بالله تعالى ، والخلود في جنّأت النعيم ليجزيهم أجر ما عانوه . فهل لهؤلاء من بواكي؟؟ و هل لأسرهم من امتيازات وتكريما خاصّة يليق بمواقفهم الخاصّة، مثلما كانت لعذاباتهم صمودا خاصّاً . ولكنّهم باعوا لله، ولا يرجون غيره ، ونختم بقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 111].
4 / شهر رمضان المبارك 1441
https://telegram.me/buratha