محمّد صادق الهاشميّ
هي مواقف مّا تلك التي أدّت بي إلى الاعتقال سأروي لكم تفاصليها لاحقاً. وعلى أيّ حال اعتقلت ، وكان الجلّاد الرّائد «عدنان» ومن معه يرددون : «جبناها واجت ويانه» ، فرحين مستبشرين ، كأنّهم أتوا بغنيمة كبيرة ، أو صيد سمين .
أدخلوني مديرية الأمن العامّة في بغداد .
قالوا لي :ممنوعٌ أنْ تنام ، هكذا أبلغوني ، وأنا موثق مصلوب الى حديدة قد سمّرت إلى الحائط ، عارياً إلّا من لباس داخليّ ، هزيلا ينتابني القلق، وما سيقال لي هنا ، وما هي تهمتي ، وأيّ شيء فعلته. وما عساني أقول وأنا في عمرٍ يعدّني الناس فيه صبيا ، حيث كان عمري حينها لم يتجاوز 14 عاماً .
ترددت إلى سمعي – وأنا واقف مسمّرا وجهي إلى الحائط - من خلال نداءات الجلّادين ، أسماءٌ : مزهر الطّحان – عرفت في ما بعد أنّه حامل شهادة دكتوراه ، ويكنّى بـ ( أبي مناف ) ، وعرفت أيضا أنّه كان مدير مستشفى الشّماعية في بغداد ، وكان قادما من لندن للتوّ ، وكان الجلّادون بانتظاره في المطار، عرفت بعد ذلك أنّهم يحققون معه ويسألونه عن شقيقه «أبي هناء البغداديّ», وبعد أنْ خلعوا ملابسه كانت حذاؤه اللّندنيّ قد سال عليه لعاب المحقق الجلّاد عامر الكاظميّ ، فأخذه منه واعتبره شيئاً يفخر به ، أنّه بريطانيّ.
وسمعت باسم السّيّد «ضياء النقويّ» ، عرفت بعد ذلك أنّه دكتوراه في الكيمياء الفيزياوية من مدينة الكاظمية .
وسمعت باسم المهندس عدنان .
وسمعت اسم «فلاح» ، عرفت أنّه يحمل شهادة دكتوراه في الهندسة المدنية.
وسمعت اسم «عليّ» ، عرفت بعد ذلك أنّه من مدينة الثّورة (محامي شركة بيبسي كولا).
واستغربت كل هذه الشهادات الراقية تداس وتنتهك.
كلّنا هنا نصرخ ... أنّنا أبرياء ... نريد ماء ، فقد كادت قلوبنا تتفطّر عطشاً ، وأجسامنا أنهكها التعب والإعياء من الوقوف ، ولا أدري ما الخبر وعلى ماذا جاءوا بي هنا!!.
وكانوا يأمرون السّجناء الذين سبقونا ، والذين هم لا زالوا قيد التحقيق بإطعامنا شيئاً من الطّعام يضعوه في أفواهنا ، لأنّهم لا يفكّون أيدينا لنأكل ولا لنشرب ، وأتذكر أنّه جاء دوري بعد أيّام في أنّ يفكّوا قيودي من الحائط، فصرت في نظرهم عضوا قديما في السّجن يؤهّلني أنْ أطعم السّجناء الوافدين جديداً ، فشرّفني الله تعالى أنْ أطعمتُ السّيّد حجّة الإسلام والمسلمين الشّيخ محمّد تقي الجلالي ، والقيادي الكبير في حزب الدّعوة الأستاذ هادي السّبيتي لساعة واحدة .
وأسجّل للتاريخ وأشهد له : أنّه قد أذهلني موقف أختنا الكبيرة الماجدة الأستاذة (جميلة شرجي) ، من مدينة الثّورة - حالياً سمّيت باسم مدينة الصّدر - ، تصرخ صراخاً عاليا، وتأنّ أنياً تتفطّر له قلوب الشرفاء ، توحي لك أنّ ناراً تلهب أحشاءها ، أو أنّهم يقتلعون بالحديد قلبها رويدا رويدا ، أو يقطّعون أوداجها وريدا وريداً ، وهي معلّقة على السّقف من يديها الموثوقتين إلى الخلف . ثمّ أخرجوها يجرّونها ليخرجوها من غرفة التحقيق ، في الممرات ، والدّم ينهمر من كلّ جسمها ، سقطت من أيديهم وهي مكّبلة ، فعادوا إليها يرددون عبارات : «قذرة ، قح... كذا منك ، يا .... » ، كلمات هم أنسب لها من تلك الطّاهرة العفيفة ، (كلمات بعثية) يستسيغونها بكلّ سهولة ، ولا يجدون فيها حرجاً ، بل ليس في قواميسهم – كأبناء عواهر – غيرها.
ثار فضولنا جميعا ذلك التعذيب ، وهذا الصّراح من هذه الأخت في أنْ نتحسس عن الجريمة التي ارتكبتها، وما هي تهمتها؟، فترامى إلى سمعنا أنّها شتمت «الآلهة ، وأباهم الكبير هبل ، أنّها سبّت الحزب وصدام حسين).
وفي ليلة : أرسلوني إلى الملازم «عدنان» ليجري معي تحقيقاً. أجلسني على كرسي ويداي مشدودتان إلى الخلف ليملأ لي صحيفة الأعمال. فخلع حذاءه ورماها من وراء منضدة كان هو جالساً عليها ، وقال لي : ( قاسم ) ناولني الحذاء ، إمعانا في إذلالي، وتحطيما لنفسيتي .
قلت له : إنّ يدي مقيدةٌ إلى الوراء .
قال: يولّو عضّها بحلكك وجيبها.
سكتُّ طويلاً وأنفت نفسي أنْ أفعل هذا ، ونظرت إليه بنظرة تحمل كلّ معاني الاحتقار ، إذ لا يمكن لي أنْ أنظر إليه بغير ذلك ، لحظات قصيرة جالت بخاطري في كلّ ما أحمل من عزّة نفس وقيمٍ ، وأخلاقٍ وأهلٍ وكرامةٍ وعشيرة وتاريخ وعلماء، وأسأل في تلك اللحظات ما الذي أوصل مثل هذا أنْ تبلغ به الحقارة حدّاً يطلب منّي هذا ؟.
حاولت أنْ أقطع عليه طلبه ، وقلت له : أنا عطشان.
قال: أي مو بالخدمة. فرفع سوطا أسود عنده وانهال عليَّ ضربا بكلّ ما وصلت إليه سوطه، ولم يتوقّف ، لكنّ الله شاءت رحمته أنْ رنّ عليه الهاتف الذي كان إلى جانبه ، فانشغل عنّي .
ألو سيّدي ... نعم.. نعم .. حاضر سيّدي. حاضر ، حاضر ، سآتيكم سريعا ، فخرج المجرم من الغرفة مسرعا بعد أنْ أخذ حذاءه التي كنت أفكر كيف سأموت ولا أعطيها له.
وأعادوني إلى زنزانتي ، أسحب أنفاسي التي خنقتها سياط هذا الخنا . فتمّت هذه اللّيلة على هذا.
7 / شهر رمضان المبارك 1441
ــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha