محمّد صادق الهاشمي |
هل أنّه هو حقّاً ؟ أم أنا في وهمٍ وخيال؟ لا ، لا، هذا غيرُه ، لا يمكن أنْ تصل جرأة البعثيين إلى هذا الحدّ ، عقلي مذهولٌ لا يكاد يصدّق أنّه هو الذي تراه عيني .
رأيتُ حشداً كبيرا ، وثلّةً مؤمنةً ، تتهادى في مشيتها في أروقة سجن أبي غريب، والجلّادون يحوطون بهم بكلّ وحشية وتنكيل وتشفٍّ ووجوه لاتعرف الرّحمة ، وفي مقدّمتهم- الحشد الكريم- رجلٌ شيخ كبير ، تعلوه علامات الوقار والجلال وسيماء الصّالحين ، وشفتاه تتمتمان بذكر الله تعالى، يبعث منظره على الهيبة في قلوبنا ، فتهامسنا ونحن نشاهدهم من ثقوب الجدران، من هذا ؟ ومن هم ؟ ، عرفنا بعد ذلك أنّهم أسرة وبيت السّيّد الحكيم من النّجف الأشرف ، وهذا الشّيخ الكبير هو المرجع الكبير آية الله العظمى السّيّد محمّد سعيد الحكيم ، فأيقنت حينها أنّه في عهد البعثيين سوف لا يكون لأحدٍ منّ كل الشعب العراقي قيمة وقدر وكرامة ، فإنّه إذا كان هذا تجاوزهم على زعيم الطّائفة فما حالك يا «قاسم»!!، وهل يرقبون فيك وفي غيرك إلّا، او كرامة، او ذمة !!!.
إنّ مرجعاً وأسرتَهُ يقتادون إلى السّجون بدون سببٍ، بعد أنْ تمّ إعدام ما فاق على الـ (70) شهيداً – على ما اعتقد – منهم ، إنّها جريمةٌ بحقٍّ تستحقُّ أنْ أسجّلها للتاريخ؛ كونها إهانةٌ سافرةٌ للتشيّع كلّه، هذا فضلا عن إعدامه من قبل الشهيد الصدر الاول .
لقد كان وجود هؤلاء السّادة بيننا في السّجن يخفف آلامنا ، ويهوّن من محنتنا . وكان السّادة قد عزلوهم عنّا ، وخصصت لهم زنزانات بمعزل عنّا ، ولكن كانت ثمّة ساعة من كلّ أسبوع وربما اقل فيها يفتح السّجّانون الأبواب ، بل يفتحون الزّنزانات على بعضها بعض الأيّام وبعض السّاعات ، فنخرج فيها إلى باحة السّجن ، ويزور بعضُنا بعضاً ، ونتهافت على رؤية السيّد المرجع ، وهو غارق في تسبيحه ، يتنقل بهدوء في أروقةالسّجن ، هو وأولاده وأخوته الكرام
يزورو السادة ال الحكيم البعض منا في غرفهم ،و كان ( حفظه الله ) يسلّم على هذا ، ويتحدث مع آخر ، ويدعو لذاك ، ويرحّب بكلِّ من لاقاه ، ويشدّ الأزر ويخفف المعاناة ، وينشر في أجوائنا المواساة ، كانت له هيبة من الله ، وصدق ذاك المؤمن إذْ قال في وصف أمير المؤمنين (عَلَيهِ السّلامُ): «... كان والله كأحدِنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ، وكان مع قربه منّا لا نكلّمه هيبةً له... ».
كنت صغيراً ، ولكني كنت أغرق في تفكيرٍ عميقٍ : هل أنني أشترك في قضية أحكم فيها بالسّجن المؤبّد كقضية هذا السيّد المرجع؟ ويطول بي التفكير؟ وما هي الجريمة التي يمكن لهذا المقدّس أنْ يرتكبها ؟.
ولقد كان السّيد المرجع يستثمر تجمّع السّجناء الشّباب الأبرياء من أبنائه حوله فيفيض عليهم من تلك الرّوح الحانية حنانا ولطفاً ، ويلامس قلوبهم بالمودّة ، ويبعث فيهم الأمل ، ويحدّثهم بكلّ حديثٍ جميلٍ ، ويختار لهم من الرّوايات ما هو في غاية التّأثير ، كأنّه يقرأها من كتاب بين يديه ، فيختار لنا ما يناسب محنتنا، ويماثل موقفنا ، ويعالج ألمنا ويشدّ من أزرنا .
ولا زلت أتذكر أنّه روى لنا عن أسيد بن صفوان صاحب رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) أنّه قال: لمّا كان اليوم الّذي قُبض فيه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ارتجّ الموضع بالبكاء، ودهش الناس كيوم قُبض النبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ)، وجاء رجلٌ باكٍ وهو مسرع ومسترجع، وهو يقول: « رحمك الله يا أبا الحسن ، ثمّ ذكر أوصافا له ، ومن ضمنها قال: وكنت للمؤمنين أباً رحيماً...» ، بكينا ، ونحن نسمع من فيه هذا الكلام ، وعيناه الكريمتان تمطران الما ، وهو يرانا - نحن أبناءه - نموت بالتّعذيب وبالجوع والحسرة ، وفراق الأهل والأحبة .
خلال وجودنا سمعت عنه كثيرا من الرّويات ، ولكنّها قد غابت وغادرت ذاكرتي إلّا هذه الرّواية كانت عصية على النّسيان ؛ لأنّ الموقف كان حزيناً معبّراً ؛ صوّر لنا فيها ومضةً من شخصية الإمام عليّ (عَلَيهِ السّلامُ) الأبوية الحانية ، ورسّخها أكثربعض أخوتنا من رجالات السلطة ، فإنّ الاشياء تعرف بأضدادها .
اتذكر أيضا كيف أعاد عليه الاستجواب حسين كامل والحديث طويل ونازف تلك هي صفحات صدام حسين
9 / شهر رمضان المبارك 1441
ـــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha