◾محمّد صادق الهاشميّ ||
لقد حلّ على العراق ظلامٌ دامسٌ ، وغزتنا غرابيب سود بمجيء الطّاغية صدام حسين مع حثالةٍ اجتمعت له من أنجاس القوم وأراذلهم والمنبوذين ، وشذاذ المجمتمع العراقيّ سمّاها عفلقهم باسم : «حزب البعث»، وعاش النّاس تلك السّنين الكالحة حملةَ اعتقالاتٍ وإعداماتٍ مسعورةٍ قام بها أجلافُ أمن النّظام ومرتزقتُه.
وما أكتبه اليوم إنّما هي وثائق وحقائق تناثرت في صدري وفي ذاكرتي يكاد يزحف على أكثرها التّآكل والنّسيان وتقادم العمر ، فرأيت أنْ أكتب شيئاً منها قبل فوات الأوان ، لذا فأنا أرى أنّ كتابة تلك المذكرات لم تكن نزهةً عابرةً ، بل جاءت تلبية لتوثيق شيء من تلك الحقبة المؤلمة، وانتصارا لشريحة مؤمنة .
أتكلّم اليوم عن مجرم استطاع صدام أنْ ينفّذ جرائمه من خلاله ، ألا وهو القاضي «مسلم هادي موسى الجبوريّ» فقد عيّنه سيّدُه صدّام حسين رئيساً لمحكمة الثّورة السّيئة الصّيت في عام 1979م على أثر أحداث رجب ، وخلفية اعتقال الشّهيد السّعيد آية الله العظمى السّيد محمّد باقر الصّدر (قدّّس الله سرّه)، فأسرف في قتل المعتقلين ، وأزهقت قراراته كثيراً من أرواح الأبرياء بإصدار أحكام الإعدام بحقّهم، فضلاً عن الحكم بالسّجن بالمؤبّد ، والمدد الطّويلة المتفاوتة ، فكان يتزلّف لأسياده بإصدار أحكام الإعدام الجائرة على شيعة آل محمّد رجلاً ونساءً.
يعرف هذا السّفاح اختصاراً بـ «مسلم الجبوريّ»، مولده في محافظة الدّيوانيّة ، ومسكنه في بغداد ـ الكريعات، التّابعة إلى منطقة الأعظمية، والتي لا يفصلها عن مرقد الإمام الكاظم (عَلَيهِ السّلامُ) سوى نهر دجلة ، شيعيّ بالاسمِ ، ولكنّ ولاءه وجوهره صداميّ .
لقد حاولت كثيراً أنْ أعثر على ترجمةٍ لهذا المجرم المسرف فلم أوفقْ، غير أنّي سأنقل لكم ما كتبه رفاق السّجن في مذكراتهم ، وما دار بينهم وبينه.
1. يقولُ الأستاذُ سليمُ العراقيّ مؤلّف كتاب «أوراق مهرّبة»: «وأمّا القاضي مسلم هادي الجبوريّ فقد اعتاد الكلماتِ البذيئة، والسّب، والشّتم. وحينما يدافع المتهم عن نفسه، من أنّ الاعترافات قد أُنتزعت منه بالقوّة، يقول له: ما كَدرت تتحمّل لابجين لابجينين ، أو شتريدهم ايطبطبون على ظهرك ، أو ليش جابوك ما جابو غيرك . اقطع الكلام ».
2. ذكر لي أحد السّجناء ، ممّن أثق به أنّه قد ترافع معه رجلٌ مهندس وكانت معه زوجته، تحمل على أكتافها طفلاً لم يتجاوز عمره السّنة – بحسب تقديره – وبعد سؤال هذا القاضي عن اسميهما عرض عليهما القضية التي أُتهما فيها ، وحكم عليهما بحكمه المعهود : «حكمت محكمة الثورة بالاعدام...» ، وأمر القاضي بانتزاع الطّفل من على أكتاف أمّه، فتعلّقت به، وتعلّق الطّفل بأمّه ، وبين شدّ الأمّ لطفلها ، وجرّ الجلادين له منها تعالى صراخه بشكل ملأ القاعة صراخا، وأخيراً استطاع الجلّادون أن ينتزعوه منها وهي صارخة صراخ الأمّ الثّكلى بنفسها ، وبزوجها ، وابنها، فانهارت ساقطة على الأرض ، وضجّت قاعة المحكمة بصراخ المحكومين ، فأصدر القاضي حكمه باخراج الطّفل وتصفيته جسدياً.
3. ذكر الأستاذ «مهدي عبد الله» في كتابه «مزامير السّجون» قال: «وفي يومٍ من الأيّام أعدم هذا الجزارُ أحدَ الشّباب من نفس منطقته ـ أي في منطقة الكريعات ـ ثمّ جاء ليحضر مجلس فاتحته التي أقامها أهله عليه ،وكان حسين ـ من أقرباء زوجة هذا القاضي «مسلم المسرف» يوزّع الشّاي للمعزّين، فتجاوز حسينٌ هذا الحاكمَ الصّلفَ، ولم يقدّمْ له قدحاً من الشّاي، فثار هذا الحاكمُ على حسين، وقال له: حسين، إذا أتيتني إلى المحكمة سوف أعدمك. وبعد فترة أُعتقل حسين، وحُكم عليه بالمؤبّد رحمةً به .
4. نقل الدّكتور «حسين الشّهرستاني» في كتابه «الهروب إلى الحرية» قال: في يوم 12 شباط 1980م، أخذوني مع مجموعةٍ من المتّهمين من «مديرية أمن بغداد» في سيارةٍ مغلقةٍ إلى محكمة الثّورة، وكانت عيوننا معصَّبة، وجامعات حديدية تخدّ بأيدينا.
دفع الجلاوزة بنا إلى قفص المحكمة، وقد رفعوا العصابات عن عويننا، ولكنّ أيدينا بقيت مقيّدة بالحديد. سألنا القاضي «مسلم الجبوريّ» عن أسمائنا واحداً واحداً، ثمّ بدأ يتهجّم علينا، ويستخدم كلمات بذيئة وألفاظاً سوقية، فطلبت أنْ أتكلم ، فقال لي: اسكت، سيتكلّم المدّعي العامّ، وبعدها أنت تتكلّم.
كان للمدّعي العامّ قوالب معدّة سلفاً، يقرأها كلّ مرة وعلى أي مجموعة تصعد إلى المحكمة، لا علاقة لها بقضية الاعتقال أو التّحقيق ، وفي ختام كلامه طالب بإنزال أشدّ العقوبات فينا... لم يطل الادّعاء أكثر من دقائق قليلة، ثمّ بدأ رئيس المحكمة بالسّباب!! واستخدام الكلمات النابية البذيئة، وممّا قاله: «أنتم العجم ما يصير لكم جارة، أنتم كم تفضَّل البلد عليكم. ثمّ خاطبني من بين المجموعة : أنتَ ولك عيَّنوك بأعلى منصب علمي بالبلد، لقد تفضَّل عليك السيّد الرّئيس، ولكنْ يبقى العرق العجمي دسّاس عندكم، دائماً تخونون وطنكم، أنتم عملاء للأجنبي. فردّه السيّد بردّ حاسمّ من شاء الاطلاع عليه فليراجع الكتاب المذكور .
5. وعن السّيد «صلاح الخرسان» في كتابه «حزب الدّعوة الإسلامية» قال: خلال التّحقيق الذي كان يتواصل مع المعتقلين ليلاً نهاراً، أُحيل 1200 معتقل إلى محكمة الثّورة، برئاسة «مسلم هادي الجبوريّ» في 20/6/1979، وحكم عليهم بالأحكام التالية:
(أ). الحكم على 86 شخصاً بالإعدام، معظمهم من علماء الدّين ، ومن وكلاء الإمام السّيد الصّدر الأوّل ، كما كان من بين المحكومين 26 عسكرياً. (ب). الحكم على 200 شخص بالمؤبّد.
(ج). الحكم على 814 شخصاً بالسّجن لمدد متفاوتة. (د). أمّا باقي المعتقلين ـ وعددهم بالآلاف ـ والذين لم يحالوا إلى محكمة الثّورة، فقد تمّ الاحتفاظ بهم في معتقلات الأمن العامّة ، ريثما تكتمل اعترافاتهم . أكتفي بذكر هذا المقدار تاركاً لمن يطلب المزيد الرّجوع إلى تلكم المصادر .
وبالأمس كنتُ أتابع خبراً مفاده أنّ «أفكار بنت مسلم الجبوريّ» قد منحت شهادة الدّكتوراه في الطّفيليات بتاريخ 29-9-2016 م . في جامعاتنا في العراق ، فهذه أخلاقنا ، وتلكم هي أخلاقكم:
ملكنا فكان العفوُ منّا سجيةً ولمّا ملكتم سال بالدّم أبطح
فحسبكم هذا التفا وت بيننا وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح.
نسخة منه إلى الخضراء
17/ شهر رمضان المبارك 1441
ــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha