المقالات

الحلقة الثّامنة عشر/ قصة شرف  


محمّد صادق الهاشميّ ||

 

 أمسكتُ قلمي ويدي ترتعشُ  ، أأكتبُ ما يجول بذهني ، أم أدعُه، إنّ جرائم البعثيين فاقتِ التعدادَ ، ولكنّ الكلام حينما وصل إلى شرف المرأة العراقية في سجون صدام حسين وقف اللّسان متلعثماً ، والعقل متحيّراً .

قررتُ أنْ أكتب للتّاريخ، رغم قساوة الموقف، كتبتُ ودموعي تنهمرُ ساخنةً ، وذكرياتي لهيبٌ أكتوي به كلّ لحظةٍ، ورياح الحزن لم يهدأ عصفها، وبما أنّ الموضوع الذّي سأتحدّث فيه موضوعٌ حسّاس جدّاً ، فسأبتعد فيه عن ذكر المسميات ، وسأكتفي فيه بالرّمز .

بعد  مرور «12» سنة من اعتقالي خرجتُ من السّجنِ، وأُطلقَ سراحي ، وعدتُ إلى أهلي، وعرفت أنّ ألمجاهدة  ، فلنسمِّها : «شّرف» كانت قد أُعتقلت بعدنا أيضاً لفترة قصيرةٍ لا تتعدّى عن «7» أشهر في مديريةِ الأمنِ العامّةِ في بغداد، وعندما  سمعتْ بي قد أُطلق سراحي جاءتني لغرضِ الزّيارةِ وتفقّدِ أحوالي ، وصارتْ بمنزلة أختي ؛ ولعلّ المصيبة الواحدة التي حلّت بنا قد جمعتنا على قلبٍ واحدٍ، عرفت أنّها - رغم تقدّمِها في العمرِ- لم تتزوّجْ بعدُ ، فظننتُ أنّ الذّي منعها من الزّواج كونها من العوائل التي لا يرغبُ فيها أحد خوفا منها، في وقت صدام حسين، لأنّها كانت معتقلةً ، ولأنّها إخوتها في سجون صدام، فخطر في ذهني أنْ أسعي في زواجِها من أحد المؤمنين الأطهار من جماعتنا بما يناسب عمرها ، وبعد فترةٍ ليست بالقصيرة جاءني أحدُ أصدقائي طالباً منّي أنْ أسعى في تزويجه من امرأةٍ مؤمنةٍ خيّرة ، فقلت له : «على الخبيرِ وقعتَ» ، هي بنت في غاية الشّرف، والسّمعة الطّيبة، إنّها فلانة :«شّرف».

 فرضي ، فرأيت أنْ أُفاتحها بالموضوع أوّلاً قبل أنْ نعرضَ الأمرَ على أهلِها بخطبةٍ رسميّةٍ . فعرضت الأمر عليها، وهنا كانتِ المصيبةُ ، قالت : «خوية آنه ما أتزوّج... أنا ...في المعتقل، أنا ...». فهمتُ الأمر . تألمت طويلاً حزناً عليها ، وبكتْ هي دماً  ... ودموع هتن...

تلك هي ذكرياتٌ مزّقت لي أحشاءً ، وسحقت بقايا روحٍ محطّمة  ، لأجلكِ وعليكِ يا أختي يا بنت الشّرف، كم ضَجّ بي الألم ، وكم مالكني الحزنُ والأسى ، وتسهّدت عيوني العبرى، وغالبتني دموعي.

وأنا حينما أخطّ بقلمي حروف هذه الذّكريات أشعر أنّي أنكأُ جراحاتي ، وأحطمُ أعصابي وبقايا جناحي المهيض، شعرتُ أنّ الدّنيا ضاقت بي ، فصدام لم يُبقِ لنا حرمةً، إنّها حكايةٌ لايكفي في وصفها بأنّها مؤلمةٌ ، بل لو أريد للألم أنْ يتجسّدَ ماشياً على الأرض لكانت هي، وهي تعبّر عن حالات أخواتنا اللّاتِ ...

وفي  نفس تلك السّنوات السّوداء سنوات الجمر والقهر والنّار، وسحق كرامات الشّعب وشرف الطّاهرات المخدّرات كانت عواهر صدام «الماجدات» يرقصنَ له طرباً ، لحثّ الشّباب على الموت في الحرب الايرانية العراقية ، وهن يهزجنَ :

«شيلة مرته تلوك عليه الما يطوّع ».

وعلى ما كان عليّ إلّا أنْ أصارح الرّجل بايحاءٍ يكادُ الذّكي يتلقّفه ، وحال رفضه أجدُ للتّراجع سبيلا، فكان رجلاً شريفاً غيوراً ، فقال: «لا مانع عندي ،  يكفيني منها تضحياتها وسمعتها الطّاهرة».

 وحضرت يوم خطبتها وتمّ الأمر ، ثمّ رأيتها بعد أيّام وقبل زفافها فلم أتمالك دموعي ، فقالت لي: «خوية قاسم ، أبو محمّد آني مظلومة  ، إلى هذا الحدّ تبجي بأيّام عرسي» .

قلت لها : «لا ، خويه ، أنا فرحان ومن شدّة فرحي بيج وبزواجك أبجي».

فتبسّمت ، كأنّها تقول لي : «إنّ دموعَكَ دموعُ وجعٍ خَفّيّ كوجع قلبي المكسور».

هذا هو التّاريخ.. فقد كانت تمزّق السّياط جسد العراق وتنخر وجدانه.

وكان الجلّادون يرددون على مسامعنا : ... عملاء ... حزب الدّعوة .

ولقد كانت المشانقُ بعددِ  شباب العراق ، لكلّ مَنْ ينتمي لحزب الدّعوة رجلاً كان أم امرأة.

كان الجلّاد يسحقّ على أشلائنا وتعلونا سياطه وهو يشتم آل الصّدر ... والخميني... وحزب الدّعوة.

وأختنا «شرف» ضحيّة جلّاد لايعرف الشّرف قتلها ومزّق أعماق أعماقها لأنّها من أسر حزب الدّعوة، كانت تهمة حزب الدعوة بحجم العراق، فكلّ من يعتقل يعتبره الجلّاد منتمياً له ، ويُمارس التحقيق معه كأحدِ أفراد الحزب .

سارتِ الحياةُ بأختنا «شرف» رغيدةً في ظلّ زوجِها الغيورِ، الذّي يفيضُ شهامةً وكرامةً ، ورُزقتْ بأطفالٍ كأنّهم فلقةُ قمر .

ولكنّها بقيتْ مظلومةً تعيشُ في ضنك العيش والفقر والفاقة ، وكادُ الفقرُ أنْ يكونَ كفراً ، وهي راضيةٌ بما قسمَ اللهُ لها ، فالذّي يهمّها كرامتها، ولكنّ الفقر قد اشتدّ بها، فشد الرحال زوجها مهاجراعبر البحار.

وبعد مدّة ترامى إلى سمعي أنْ أختك « شّرف» قد ماتت في أعماق البحر، لقد غرق الزّوق الذّي كان يقلّهم ، وانزلق منها أطفالها ، فألقتْ بنفسِها عليهم ، وتلاشت هي وأولادها  في أعماق البحر ، ولا أقول إلّا ما يقوله كلّ جنوبيّ :

 «عمت عيني  عليج ،  من مظلومةٍ طاهرةٍ زكيّةٍ».

إنّ ما أذكره عن هذه البطلةِ المؤمنةِ لا يمثّل تجربةً شخصيةً فريدةً عاشتها « شرف» حدثتْ في لحظةٍ ، بل هي تمثّلُ حالةَ كلِّ إمرأةٍ عراقيةٍ شريفةٍ عاشت في ظلّ استهتار البعثيين بكرامةِ العراقياتِ في السّجن الصّغير ، أو في سجن صدام الكبير .

كم تمنيتُ على أخوتي أنْ نخصص شيئاً من أموال  السّجناء لنبني للسّجينات تمثالاً يخلّد عفّتهنّ وموقفهنّ وعذاباتهنّ وتأخّرهم في الزّواج وتشظّي أرواحهنّ الطّاهرات.

وكم تمنيت أنْ نبني تمثالاً للمرأةِ العراقيةِ يذكرُنا بشموخِها في زمن المحنة ، سواء أكنّ أرامل أو  سجينات ، أمّهات شهداء ، أو معذبات .

ولا ننسى الأيام التي كانت بعض الرّفيقات ( الماجدات ) تطلب من الأطفال في المدارس أنْ يبصقوا على وجوه بنات الشّهداء والمعتقلين ؛ لأنّهم خونةٌ. فهل نكمل بصاق البعثيين على تاريخ الشّرف الزّينبيات بالإهمال ، وتقاسم الإرث أم نبني لهنّ تمثالاً نقف لهنّ فيه إجلالاً؟.

أتمنّى أنْ يكون تمثال المرأة العراقية التي عانت لأجل دينها وعفّتها باسم تمثال الشّرف ، وفيه ترفعُ المرأةُ  يديها إلى السّماء تشتكي عفّتها.

اجعلوا للمرأة يوماً وتمثالاً.

انتصروا لأعراضكم فقدتعرضنَ للخوف والموت والهتك والمحنة والترمّل واليتم.

واذا كان الرّجل المعتقلُ يكابدُ الخوفَ والألمَ في المعتقل فإنّها تعاني كلّ شئ، وفوق ذلك تكابدُ الدّفاع عن عفّتها ، وعفّة أهلها ، وعفّة العراق والتّاريخ والمذهب والنّضال. هي الزّينبية، وهي بنت الهدى ، وهن الحواري. خلدّوهنّ بالقيم والمعنويات .

18 / شهر رمضان المبارك 1441

ـــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك