محمّد صادق الهاشميّ ||
قال الله تعالى : {وقال ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة إلّا أنْ تكونا مَلَكَينِ أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إنّي لكما لمن النّاصحين}.
هذه الآيةُ تحكي لنا كيفَ جاءَ إبليسُ إلى آدم النبيّ (ع) وأمِّنا حوّاءَ ليقولَ لهما : إنّ الله إنّما منعكما عن الأكل من هذه الشّجرةِ ؛ لأنّ فيها نفعاً لكما، فلو أكلتم منها سوف تكونان في مَصَافِّ الملائكةِ في الدّنيا ، ومن الخالدين في الآخرةِ ، وأقسمَ لهما على صدقِ ما يقول، وأنّه لهما من النّاصحين.
وقد تسألُ : كيفَ صَدّقَهُ آدمُ النبيُّ (ع)؟ أقول: إنّ آدمَ هذا الكائنَ الطّاهرَ الذي لم يسمعْ ولم يَرَ أنّ كائناً من كائنات الله تعالى يَحلفُ به كاذباً لمّا سمعه يحلفُ باللهِ صَدَّقَهُ ، أيُحلفُ باللهِ كذباً!!!. وأنا أعتقد أنّ ما حَدَثَ لآدمَ سُنّةٌ جاريةٌ في كلِّ بشرٍ تتحقق له ظروفُ آدم (ع) أعني الطّهارة والنّزاهة ، فكلّما كان الإنسانُ طاهراً على حدٍّ بعيدٍ صَدّقَ النّاسَ بسرعةٍ وخصوصاً إذا أقسم.
وما أكتبه اليوم لكم شيءٌ يرتبط ببساطةِ وطهارةِ بعض ِالنّاس، وقلّةِ خبرتهم ، وطموحهم للخلاص . ما أكتبه لكم هو ما روته لي إحدى أخواتي التي إلتقيتها بعد خروجي من السّجن ، وكانت معتقلّةً في «سجن الرّشاد» .
قالت: كانت معنا في الإعتقال سجينةٌ اسمها «... » أخذت منّا مأخذاً ، لا تعفي الأيّامُ ذكرياتِه مهما مرّتْ بنا، وطالت بنا السّنون . قالت: إنّ هذه السّجينة قالت لنا :
كان زوجي وأصدقاؤه تربطُهم علاقةٌ أخويّةٌ صادقةٌ وثيقةٌ، فلا يكادُ ينقضي يومٌ إلّا وهم يلتقون في بيتنا على المرحِ وكلماتِ الطّيب ، يحتسون الشّاي الكأسَ تلو الكأسَ، يتبادلونَ أطراف الحديث في مسائلَ شتّى، ومن ضمنها ما يجري في العراقِ من ظلمٍ واضطهادٍ .
وعاشوا عمراً طويلاً على هذا المنوال، إلى أنْ حَصل لهم أنْ وثقوا بشخصٍٍ جديدٍ دخل بينهم ، وأخذ يحضرُ معهم في بيتنا ، وأُعجبَ به زوجي وأصحابُه أشدَّ الإعجاب، وسبحان ربّي القائل في صفة المنافقين: {... وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ...}، فقد كان شابّاً مندفعاً يُبدي لهم الشّجاعةَ ويحرّضُهم على استنكار الظّلم، ويقصّ عليهم قصصاً في ذلك .
مرّت أيّامٌ على ذلك.
وفي يوم.... اقترح عليهم الاستيلاءَ على المنظّمة الحزبيّة في منطقتِنا ، وقتلَ البعثيين فيها ، ثمّ اللّواذ بالفرار، وقال لهم : أنا سأوفّر لكم السّلاحَ الكافي لذلك، وسأتصلُ بجماعةٍ أخرى تساندُنا.
وصدّق زوجي ورفاقُهُ كلامَهُ ، وأنا أسمعُ ما يدور ، وما يتكلّم هذا الشّاب في «ديوانيتنا» ، خفتُ كثيراً ، وأخذني القلقُ ممّا سيحدثُ، قلت لزوجي بالأمر ، قال: « ما عليج» ، ومنعني الحياءُ من زوجي إنْ أنا أُخبرتُ (عمّي) - والدَهُ - بالأمر، وبعد أيّام جلبَ هذا الشّابُ السّلاحَ إلى بيتنا بعد موافقةِ زوجي وجميعِ رفقته، فالتقط لهم صوراً وهم ماسكون بالأسلحة ينتظرون السّاعة التي ينفّذون فيها الهجومَ على المنظّمة الحزبيّة.
إنّ هذا الشّابَ علم بأنّني علمتُ بكلّ ما يجري ، ولم أكنْ راضيةً بكلِّ ما يفعلُهُ زوجي ، ولا أنا راضيةٌ بثقته بهذه المجموعةِ التي بدأت تزدادُ وتتسعُ ، وبتُ أنام وأنا خائفةٌ قلقةٌ، أحسُّ أنّ شيئاً مّا سيحدثُ، وأنّ الأيّام تنذرُ بشؤمٍٍ ، وسوف لا تمضي بسلامٍٍ، أحسّ بأنّ كارثةً ستحلُّ في بيتنا ، أحسُّ أنّ روحي عادت مسبيةً، تتراءى لها النّهايةُ.
بحرٌ من الأسئلة دار في خلدي، أشعر أنّ أملي في هذه الدّنيا قد انتهى، فالعالمُ من حولي عاد مجهولاً، وانطوت من خلفي مسافاتُ الحكاية، وما عدتُ قادرةً على أنْ أفعلَ شيئاً، وأنّ هذه هي المحطّة الأخيرة لقدري وقدر أبنائي وزوجي. ولكنّ زوجي يتصّور أنّ الهجوم على المنظّمة الحزبيّة هو نهاية الخلاص من صدام حسين!! وأنا لست قادرة على ثنيه عمّا عزم عليه.
وبعد ساعة أو أكثر من ليلة السّلاح هذه هاجمنا رجالُ الأمن في منتصف اللّيل ، وتمّ القبضُ على المجموعةِ كلِّها بما فيهم هذا الشّاب الذي جلب السّلاح ، وتمّ اعتقالي أنا أيضاً.
وسيق بنا إلى محطّات التّحقيق والتّعذيب في مديرية الأمن في بغداد ، عرفتُ أنّ صاحب السّلاح هو أحدُ وكلاء الأمن، كان مدسوساً بين زوجي ورفقته الذين وثقوا به.
عزلوني عن زوجي في معتقلات النّساء، ولم أعرف عنه خبراً .
وقالت : أنا أمّ لثلاثة أطفال، وكان أصغر أطفالي هو هذا الذي بين يدي، عمره سنة ونيّف، قد حملته معي حينما إعتقلوني، وهذا الطّفلُ لا يفارقني أينما أكون ، وأنا ممسكة به أيضاً خوفاً عليه، يصرخُ من الخوف وهو يراني يجرّني وحوشٌ جلّادون أمامه ، يتشبّث بي شابكاً يديه على عنقي، دموعه تفطّرُ قلبي، لكنّي أشدّ على صبري ، محتسبةً صابرةً. قد وقعتُ بين نارين: تعلّق ابني بي وحنان الأمومة وعطفها، وبين سياط الجلّادين، وابني ينظر إليّ ، فإنّي آخذوه معي في غرفة التّحقيق ، وأنا بين هذا وذاك تنحدرُ دموعي غزيرةً حينما أتذكّر زوجي، تُرى ما صنعوا به ، ويأخذُني القلقُ ، وتنتابني المشاعرُ المخيفةُ أنّ هؤلاءِ الوحوشَ المجرمين قد يرمون بصغيري هذا إلى مصيرٍ مجهولٍ، أو يجعلونَ منه وسيلةً للضّغط عليَّ لانتزاع اعترافاتٍ على أشياء لم أفعلْها، ولم أدرِ بها.
وبعد إكتمالِ التّحقيق معي جاءوا بي مع ابني إلى هذا السّجنٍ «سجن الرّشاد» .
بقيتْ هذه السّجينةُ معنا خلف قضبان هذا السّجن مع مجموعةٍ من النّساء وطفلُها هذا لا يفارقها .
فيا أيّتها الطّفولةُ البريئةُ هنا «سجنُ الرّشاد» ياولدي ، فلا تحلمْ بأرجوحةٍ تحرككَ ذات اليمين، ولا ذات الشّمال، ولا أباً يناغيكَ ويلاعبُكَ ويفرحُ بابتسامةٍ تطفحُ من محيّاك ، لا جدٌّ هنا يرى طفولته فيك، ولا عمّ ، ولا عمّة ، ولا أخ ، ولا أخت ، ولا... و... هنا «سجن الرّشاد» يا قرّة عينيّ، لا شيءَ هنا غير جلّادٍ ، وعتمة زنزانة تبعثُ في الرّوح الكآبةَ، وبعتصرُ القلبُ من وحشة جدرانها.
وكانت باحةُ السّجن مكاناً نرى فيه الانتقال إلى عالمٍ مخيفٍ، إذْ نسمع أصواتاً مرعبةً نعتقدُ أنّها أصواتُ المعذّبين ، فيتمالكنا الرّعبُ والهلعُ ، ونسمعُ أنّ هناك غرفةَ أعدامٍ ، يُفتحُ بابُها على هذه الباحةِ.
وفي يوم من أيّام «الرّشاد» هذه جاءتني أمُّ هذا الطّفل، جلستْ بجانبي ، ودموعُها تنحدرُ على خديها ، وروحُ اليأس باديةٌ عليها، قد أنهكها التّعبُ والإعياءُ، نحيفةٌ إلى حدٍّ أنّك ترى خيالاً، أخبرتني بأنّها رأتِ البارحةَ مناماً .
قلت لها: «خيراً إنْ شاء اللهُ ، إفراجٌ ؟».
قالت: «رأيتُ كأنّ شخصاً نورانيّاً قدّم لي باقةَ وردٍ ، ورأيت الجلّادين قد أعطوا أهلي ورقةً صفراءَ قد كُتب عليها : «أنّ فلانة» قد تمّ إعدامُها، قلت لأهلي: هذا كذبٌ، لا تصدّقوا ، أنا هنا موجودةٌ ، فلم يصدّقْني أحدٌ منهم ، ثمّ استيقظتُ».
حاولتُ أنْ أخففَ من روعها، وأفسّر لها رؤيتَها بما يهدّأ من حزنها ، قلت لها: «الحلمُ معكوسٌ، سيطولُ عمرُك، وستخرجينَ من السّجن أنت وهذا الطّفل البريء إنْ شاء الله . فلم تصدّق ما قلتُ لها.
قالت: « لا ، يا خواتي، آنه أحسّ أنّ هذا الطّفلَ سيحرمُ منّي ومن أبيه، وسأموتُ قريباً» .
قلت لها : «اذكري الله ، وصلّ على النبيّ (ص)، ما كو شيء».
قالت : «راح أموت ويعدموني، خلّوا بالكم على ابني، ما أدري شيصير بيه من وراي؟».
ولقد صدق ما قالت، إذْ جاء الظاّلمون ، ونادوا باسمها، وانتزعوها من بين يدي ولدها المتعلّق بها ، يجرُّها إليه، يصرخُ وقد ملأ الزّنزاناتِ صراخاً ... رَموه باتجاهنا في الزّنزانة بكلّ قوّة ليجرّوا أمَّه البريئةَ من بين يديه ، أخذْنا هذا الطّفلَ من بين أيديهم ، وفعلاً تمّ إعدامُها ، وبقي الطّفلُ عندنا ، تضيفُ رؤيتُهُ إلى قلوبنا ألفَ ألمٍ إلى آلامنا ، وألف حسرة إلى حسراتنا، وبعد يومين أخذه الجلّادون ، ولا نعلمُ خبرَه ، هل أُعيدَ إلى أهله أم لا؟ لا ندري .
ربّما يجيبنا على سؤالنا المتخمون.
19/شهر رمضان المبارك 1441
https://telegram.me/buratha