عباس العنبوري||
اكثر ما يمتعني في السفر، ذلك التأمل في السلوكيات الاجتماعية والفردية التي اراقبها بدقة عالية، واعمل على تحليلها والاستفادة منها في رسم خرائط واستنتاجات عن ماهية تلك المجتمعات، وتأطير مواطن التخلف والتميز والاختلاف والتباين في الاسباب والنتائج لكل مفردةْ من مفردات ذلك السلوك. وقد كان ابرز ما كنت اؤشره في اسفاري (الاوربية) ذلك الاستغراق في البعد الفردي –او الفردانية- (individualism) عند الشخص الغربي الذي لا يرى في كل ما يحيطه سوى ذاته وشخصه، وان لا قيمة للابعاد الاجتماعية وشبكتها كالاسرة والوالدين في مقابل حق الفرد في تحديد خياراته الشخصية بعيداً عن تأثير المجتمع. وهو الامر- اي الفردانية- الذي لا زال يأكل بالمجتمعات الغربية يوماً بعد يوم. وبذلك فان الحضارة الغربية بما تمتلكه من مقوماتٍ، تتيح لأفرادها فرصةً كبيرة في تنفس الحرية مع كل ما على هذه المفردة ولوازمها من ملاحظات. وهو بالعكس مما نجده في الشرق، اذ ينغمس الشرقي في البعد الاجتماعي بما يذيب فرصة الفرد في التمتع بهامش من الحرية في تحديد ابسط خياراته واعقدها –على تفاوت بمعنى البساطة والتعقيد- كاختيار ثيابه وزوجته وطريقة عيشه، لان مكابح المجتمع ستعيق حركة الفرد في تذوق حرية الاختيار. وهو الامر الذي انتج- بحسب تصوري- امراضاً مجتمعية كثيرةً كالفضول والتطفل والتحاسد ومضيعة الوقت في مجاملات زائفة ونفاق اجتماعي، الى غير ذلك من امراضنا الاجتماعية المعروفة. ولست هنا في اطار الحديث عن الشرق وامراضه بذات القدر الذي اود الاعتراف فيهه عن تراجعي عن تصوري السابق عن فكرة هيمنة "الفردانية" في المجتمعات الغربية بذلك المعنى المجرد الذي كنت اتصوره، لاقدم للقارئ صورةً جديدة لفهم جديد. فقد تيسر لي خلال الايام الماضية ان اطالع كتابين للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري، وهما "رحلتي الفكرية- في البذور والجذور والثمر"و"الفردوس الارضي" وهما زبدة فهمه المبتني على تجربة ومعايشة للمجتمع الغربي بشكل عام والامريكي بشكل خاص. وفي غمرة الغوص في نظريات المسيري الاجتماعية كثنائية "التعاقد والتراحم" و " النسبية المعرفية" وغيرها، ذكر المسيري في مذكراته قصةً خلاصتها: انه تعرف على احد لاعبي كرة القدم الامريكية المشاهير في احدى مطارات الولايات المتحدة الامريكية، وكان لا يعرفه قبل ذلك اللقاء لعدم اهتمامه بكرة القدم الامريكية، وان حواراً طويلاً جرى معه، حدثه من خلاله عن ان شركة الدعاية والاعلان تفرض عليه طوقاً من القواعد التي لا يستطيع ان يخرقها او يتهرب منها. فهي تفرض عليه مثلاً ساعات النوم ونوع الطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه، بل وحتى تفرض عليه اطراً لقواعد العلاقة الزوجية لا يمكن كسرها والتجاوز عليها!
ان الحادثة التي قرأتها بتدوين المسيري فتحت امامي نافذةً لاستحضار عشرات الشواهد الاخرى التي تكشف طبيعة استغلال المؤسسة الذي يتعرض له الفرد الغربي كلما اتسعت دائرة تأثيره وانجازه. بما يسقط في الذهن اسطورة الحرية الغربية المجردة، لتستبدل ب" الاستعباد المؤسسي" الذي يشكل –بتصوري- اسوأ انواع التطفل والتدخل الاجتماعي. وبالتأكيد، فانني لا ادعي ان النهايات مغلقة عند هذا الفهم، فهي قابلةً للجدل والتطوير كلما زادت مساحة التأمل وتعددت زوايا النظر الى الظواهر والسلوكيات، وحسبي اني لم ابخل على القارئ بآخر ما وصل اليه فهمي.