بين الجدل الساخن حول زيارة رئيس الوزراء العراقي الى واشنطن ،والجدل المتصاعد بشأن دور الانتخابات المبكرة في احداث التغيير المرتقب في العراق ،عاد النقاش مجددا في موضوع الهوية الوطنية العراقية ،وهو نقاش مستأنف ، يتوقف لفترة ويعود الى الواجهة مرة ثانية بحسب المحركات السياسية او التعبيرات الثقافية والاجتماعية المصاحبة للصراع السياسي والجدل اليومي الدائر في العراق. في البدء لابد من القول ،ان تعريف الامم والشعوب والجماعات الاثنية لنفسها هو ما يحدد نظرتها لذاتها ونظرة الاخرين لها ،فالهوية هي صورة الذات الجماعية التي تتشكل عبر الزمن ،وهي نتاج ارث ثقافي وتاريخ مشترك وسيرورة اجتماعية وسياسية تندمج فيها التمايزات المختلفة (دون ان تلغى) وتتوحد فيها مشاعر الانتماء والتطلعات المستقبلية وتشترك فيها الاهداف والستراتيجيات . والهويات كما يقول الباحث والاكاديمي عبدالغني عماد :حصيلة ديالكتيك اجتماعي وسيرورة انبنائية باحثة عن التجانس والاندماج في اطار الجماعة ،وهي اذ تنضج وتستكمل تشكلها ،تستقر في الوعي الاجتماعي حاملة السمات الاساسية التي تميز الجماعة من غيرها ...وهي بقدر ماتكون تعريفا للذات ،تكون ايضا تعريفا تستدمجه الذات في علاقتها بالاخر حسب تالكوت بارسونز واستنادا الى اميل دوركهايم وجورج ميد . الهوية الوطنية العراقية لم تكن في يوم من الايام معطى منجزا بسبب فشل سلطات الدولة الوطنية العراقية -منذ تأسيس الدولة الحديثة في عام 1921 ولغاية اليوم -في ادماج عناصر ومكونات المجتمع العراقي في هوية جامعة توحد مشاعر ووعي العراقيين ذوي الانتماءات المختلفة ،الدينية والعرقية والاثنية ،فقد ظل الوعي المجتمعي والسياسي متوزعا بين الهموم والاهداف الوطنية الجامعة وبين التطلعات والاهداف الناشئة بسبب صعود الهويات الفرعية ،فثمة وعي بالهوية لدى الكرد مختلف عن الوعي بالهوية الوطنية العراقية لدى الغالبية العربية ،ومع ازدياد القمع والسلوك السياسي الممنهج بخلفيات طائفية ،كان رد الفعل المضاد صعود الهويات الفرعية ،المذهبية والدينية ،بما اسدل الستار على المفهوم السابق للهوية الوطنية التي قامت على الاستدماج العنيف والايديولوجية القومية والالغاء القسري لكل التعبيرات الثقافية التي تعبر عن هويات محلية . ولان الهوية تخلع معنى على الذات يكون اشبه بالرداء الرمزي والصورة المتخيلة ،لذلك كان لتوجهات السلطات والنموذج الثقافي والفكري الذي تعتمده ،اثرا بالغا في تحديد وجهة ومنعكسات هذه الهوية داخليا وخارجيا ،فعلاقات القوة التي ترتبط بشكل السلطات واليات الهيمنة المعتمدة ،سياسيا وثقافيا واقتصاديا ،تشكل بمجموعها وسائل اخضاع تواجه برد فعل عادة مالم تكن قائمة على الاجماع والفهم والاقناع . من هنا واجهت الدولة العراقية بعد اعادة تشكلها عام 2003 أزمة هوية مجتمعية بعدما عادت المكونات العراقية تستقوي بانتماءاتها وهوياتها القبْلية ،كرد ،عرب،سنة ،شيعة ،مسلمين ،ممسيحيين ،صابئة ،ايزديين ،شبك ،ثم صار التصنيف الايديولوجي جزء من تعريفات الهوية ،اسلامي ،علماني ،مؤمن ،ملحد ، عروبي ،قومي ،اممي ،وطني ،واذا استمر الجدل السياسي الذي يستعين برموز ايديولوجية وثقافية ووصمات سياسية ،لانستبعد ان يدخل القاموس الاجتماعي تسميات وتصنيفات جديدة ،تزيد من صعوبات اندماج العراقيين وتبقي على تمايزاتهم وخياراتهم السياسية وتحّولها الى جدران صلدة تمزق وتقسم العراقيين وتمنع اعادة بناء الهوية الوطنية العراقية بمفاهيم معاصرة ،كون الهوية احد عناصر بناء الدولة وهي حاملة مشروع نهوضها او سبب نكبتها . بأنطلاق تظاهرات الاحتجاج الاخيرة في تشرين الاول 2019، سعت نخب اكاديمية وثقافية وتبعها بعض الرموز السياسية الى اعتبار التظاهرات نقطة انعطاف في مسيرة صوغ الهوية الوطنية العراقية ،فالتظاهرات رفعت شعار (نريد وطن )والوطن يقتضي حدودا وتعريفا يعلي المشترك على المختلف ،ويوحد الذات الجماعية بأهداف نابعة من الاحتياجات الانسانية المشتركة وليس من التناقضات الايديولوجية والقومية والدينية التي نمت وتنمو بفعل فشل الدولة في المساواة واحقاق العدالة والحقوق بين مواطنيها . هل نجحت تظاهرات تشرين المتواصلة في اعادة بناء الهوية الوطنية العراقية ؟ام هي نقطة انطلاق في هذا المشروع ؟سؤال يبحث عن جواب ومحور عمل فكري متواصل ،نأمل استكمال المشاركة فيه .
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha