أ.د علي الدلفي ||
بَعْدَ كتاب عزاءات الفلسفة الذي لقي إقبالًا لافتًا عالميًّا؛ وكتاب نظام التّفاهة الذي حضر بقوّةٍ في المُجتمعِ العراقيّ خلال الأشهر الفائتة؛ يغوصُ الكاتب الشّهير والباحث الأريب البريطانيّ السويسريّ الأصل آلان دو بوتون في طُرق بحثنا عن حبِّ الناس وتقديرهم لنا؛ أي عن مكانتنا في نظرهم. في كتابهِ هذا "قلقُ السّعي إلــىٰ المكانةِ" يوضّح الآن دو بوتون أنّ سعينا لأنْ نكون محبوبين ومقدِّرين يتفوّق على سعينا لحيازة أي شيءٍ آخرَ، بل إنّ كلّ ما نقوم به يهدف إلى تحسين مكانتنا... ذلك أنّ (مكاننا) على درجات السلّم الاجتماعيّ يلعب دورًا حاسمًا في حياتنا؛ لأنّ صورتنا الذاتيّة تعتمد بشدّة علىٰ ما يراه الآخرون فينا. لكنّهيتساءلأيضًا: هل يستحقّ البحث عن المكانة أن نقدّم التضحيات؟!!
يُعدّ هذا الكتاب أغنى وأظرف وأكثر أعمال دو الآن بوتون انتشارًا يظهر لنا فيه مدى سعة معرفة صاحبه واطّلاعه ومدى وفرة وأناقة وأصالة أفكاره.
قراءته ممتعة ومفيدة؛ ويمثّل الكتاب استطلاعًا ذكيًا ومسلّيًا من التاريخ الاجتماعيّ؛ إنّه ظريف بقدر ما هو دقيق وواضح؛ وأسلوب الآن دو بوتون التقليديّ المرح مليء بالإحالات الأدبيّة الفلسفيّة العظيمة. وفطنة الكاتب قد تنحى منحى السخرية الخفيفة في بعض المواضع؛ ومتعة قراءة السرد عنده تأتي من متابعة ألعابه الذهنية التي يقوم بها ومن قدراته المعرفية الواسعة؛ فضلًا عن فقراته الموجزة وصوره الغنائية الحيّة.
يقول:
إنَّ طُرق بحثنا عن حبِّ الناس وتقديرهم لنا؛ أي عن مكانتنا في نظرهم لا تأتي من تحقير آخرين؛ وجلد الذات والدّونيّة مع آخرينَ غيرهم! وإنَّ وراء الغرور يكمن ذُعرٌ مقيمٌ فحينما ننقل لبعض الناس الشعور بأنَّهم غير أكفاءٍ لنا؛ يأتي القصاص اللازم بشعورنا بالدونيّة إزاء أشخاص آخرين؛ فـ"الثراء لا يتطلب امتلاك أشياء كثيرة؛ بل يتطلب بدلاً من ذلك امتلاك ما يصبو إليه المرء. الثروة ليست شيئًا مطلقًا بل تتناسب مع الرغبة؛ ففي كلّ مرة نشعر فيها بالإشباع والرضا بما بين أيدينا يمكننا أنْ نعدّ من الأثرياء مهما قلّ ما قد نملكه فعليًّا... .
قد نكون سعداء كفاية بالقليل إذا كان هذا القليل هو ما نتوقع؛ وقد نكون تعساء بالكثير عندما يتمّ تعليمنا أنْ نرغب في كلّ شيءٍ".
يخبرنا آلان دو عن حقائق مثيرة جدًّا عن الطّموح؛ وقلقنا المزمن بشأنِ هوس المكانة؛ والسّعي إلىٰ تسلّق السلّم الاجتماعيّ... .
ويحدّثنا؛ أيضًا؛ عن اضطراباتنا الدّفينة تجاه من حولنا ونظرتهم وتقديرهم إلينا وما علاقة ذلك ... .
مَنْ يريدُ أنْ يتخلّصَ مِنْ قلقِ السّعي الاجتماعيّ؛ وحبّ الظّهور؛ والصّدارة المكانيّة؛ وهوس الجاهِ والرُّتبةِ... أدعوه؛ وهي دعوةٌ لجميعِ الأصدقاءِ؛ لقراءةِ هذا الكتابِ الرّائعِ؛ فهو بمثابةِ لقاح مناعة ضدّ تلك الأمراض النّفسيّة وعلاج ناجع وفعّال لها.
ــــــ
https://telegram.me/buratha