◾محمّد صادق الهاشميّ ||
طافت بي الذّكريات ، وعادت وجوه أخوتي رفاق السّجن ، وعاد شهر رمضان هذا ليطوف بي في عالم الموت في السّجون والمعتقلات ، وحطّت بي الذّكريات إلى المائدة التي كنّا نفطر عليها في سجون صدام .
يأتي في الصّباح في لهيب شهر آب اللّهاب « الذي فيه ينبت المسمار في الباب» يأتي مَنْ يوزّع وجبة الصّباح «الشّوربة» نستلمها مع الكلمات النابية ، ومع حرّ يستلّ أرواحنا من أجسادنا ، وكلّ مَنْ في السّجن صيام .
وعند موعد الإفطار نستخرج «الشّوربة» من «سطلٍ» هو أقرب إلى سطل نفايات ، صُنع من النايلون ، وقد بلغ عمره عشر سنوات ، وهذا السّطل نفسه يرافقنا.
نجد الشّوربة قد تعفّنت وانتفخت وعادت مادّة سمّية قاتلة تصلح للموت، لكنْ لا حيلة لنا غيره ، فماذا يفعل الصّائمون الذّين أرهقهم يوم قائظ ، وحرّ شديد ، وجوع ينخر عظامهم؟ .
ومجرّد أن نتناول الوجبة اضطرارا حتّى ينسلّ الجميع إلى الحمّام الواحد تلو الآخر مع ألمٍ شديدٍ ومغصّ قاتل ، نأنّ داخل الزنزانة التي هي الأخرى قد تعفّنت بأجساد أربعين شابّاً مريضا مرهقا مهزولاً جائعاً محزوناً .
نجلس بعدها بكلّ أدب وخلق وقبول حسن لمّا قدره الله أنْ نكون سجناء العقيدة ، وتنطلق حناجر القوم بدعاء الافتتاح : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِكَ وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوَابِ بِمَنِّكَ ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْعَفْوِ والرّحمة».
كنت استشعر الفرح حينما يصل بنا مطاف الدّعاء «فَكَمْ يَا إِلَهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَهَا ، وَهُمُومٍ قَدْ كَشَفْتَهَا ، وَعَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَهَا وَرَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَهَا».
كان يزيدنا صبراً وثباتا قوله : « ... فَإِنْ أَبْطَأَ عَنِّي عَتَبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَأَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ...»، وقوله : « الْحَمْدُ لِلَّهِ قَاصِمِ الْجَبَّارِينَ مُبِيرِ الظَّلَمَةِ مُدْرِكِ الْهَارِبِينَ نَكَالِ الظَّالِمِينَ صَرِيخِ الْمُسْتَصْرِخِينَ مَوْضِعِ حَاجَاتِ الطَّالِبِينَ مُعْتَمَدِ الْمُؤْمِنِينَ».
تتعالى أصوات البعض خشوعا بالبكاء ، ثمّ يتمّ استخراج الشّاي الذي استلمناه منذ الصباح في «دولكة» لنأخذ كلّ واحدٍ منّا رشفة.
كان الأمل يحيط بنا وشعورنا بأنّ ما نحن فيه بعين الله ، ولاجل الدّين والوطن والحرية، وينطلق السّيد هادي الشّوكي (رحمه الله) بصوته الرّخيم ببعض ما تختزنه ذاكرته من رثاء حسينيّ إلّا أني أجد الشّباب تتعالى أصواتهم بالبكاء حينما يقرأ : « يمّه اذكريني من تمرّ زفة شباب ....حنتي دمي والجفن ذاري التراب».
وكان شاعرنا الآخر - أتذكّر اسمه «حداد» من العمارة - يخاطب الحجّة (عجّل الله فرجه): «ما مرّ الك خبر ما مرّ ...صدرك دامي المنحر» ، هؤلاء الشّهداء السّجناء قاماتُ المجد، اليوم علينا أنْ نكرّمهم بكلّ ما للتكريم من مصاديق ، من مال وذكر كريم .
https://telegram.me/buratha