محمّد صادق الهاشمي ||
أنا قاسم الهاشمي، ولأسباب أمنية زمن النظام تداولت اسم «محمّد صادق»، وبقي هذا الاسم.
⭕ في أوّل يوم من شهر رمضان، وقبل اطلاق سراحي بعامين، نودي باسمي عبر مكبّرات الصوت طالبين أنْ أكون جاهزاً، ولا أعرف كيف أكون جاهزاً؟، و ما المقصود من ذلك؟ وما الذي يريدونه منّي. وماذا تعني هذه الكلمة لسجين محكوم عليه بالمؤبّد ؟، إلّا أنّ كُلّ الاحتمالات وردت على ذهني، وكذا وردت على أذهان أخوتي السجناء، فقالوا: ربّما اعتراف جديد ؟. ربّما يفتح التحقيق من جديد ؟.
دقائق إلّا وجلاوزة السجن يهرولون باتجاهي كعادتهم. «قاسم» وينك اطلع.
عصّبوا عيوني، وضعوا القيد في يدي، وأمسكوني من القيد. أوقفوني لحظات خارج السجن، سمعت وتحسست أحدهم يرشّ عليّ مادّة معطّرة (قاتل الحشرات ).
كعادتي توقّعتُ أنّهم ذاهبون بي إلى الموت. ولأنّ رائحتي نتنة جدّاً استوجب ذلك أن يرشّوا عليّ معطّراً، ( لكنّه قاتل الحشرات )؛ لأنّ القمل ينتشر على جسمي، وحتّى لا ينزعج الجلّادون والذباحون ريثما يتمّوا عملهم هكذا كنت أحدث نفسي.
فقال أحدهم للضابط: سيّدي قابل هي راح تشمّه.
أجابه على الفور: ولك أمّه شلون ما تشمّه.
قلت مع نفسي: تلك هي خدعهم، فتوقّعت كلّ شئ.
أدخلوني إلى قاعةٍ بعد أن فتحوا القيد والعصابة من عيني.
شاهدت في القاعة أربع عوائل، كلّ أسرة تجلس في زاوية من القاعة الكبيرة. بعدها ادخلوا سجناء ثلاث، من سجون تسمّى( المفتوحة)، أي الذين تلتقي بهم عوائلهم، كون أحكامهم خفيفة.
كلّ منهم ذهب لأسرته يحتضنها باكياً بصمت وخوف... ولم يبق في القاعة إلّا أنا واقفاً، لا أعرف ماذا افعل.
جاء الضابط بعد ربع ساعة تقريبا. قال: « يولو إنت ليش واكف وين أهلك ؟. قلت: له لا اعلم.
أتت من الزاوية إمرأة خاوية، كأنّها كوخ متهالك، قالت : يمّه قاسم وياكم هنا ؟.
قلت لها : يا قاسم حجّية ؟.
قالت : قاسم ابني، أنه أمّه هاشمية، وكالوا إله مواجهة.
حينها أتي عمّي «السيد جاسم» غزير الدمع متمالك الكبرياء، قال: عمّي إنت ياهو؟ ولم أجب بشيء؛ لأني لم أعرفه ولم اعرف ماذا اقول.
ثمّ قال لي : بعد عمّك، احنا كالونه: تعالوا واجهوا ابنكم، وما ندري وين نواجهه، وهوه وين؟.
حينها صرخ أحد السجناء الذي يجلس مع أمّه بنفس القاعة، وتعالى صوت أمّه بالبكاء. قال لي : قاسم عرفّها بنفسك... احجي موتتنا.. ليش ساكت مو أمّك هاي؟.
نظرت إليه لتخبره دموعي الحبيسة بعيوني، وليعرف أني تخنقني العبرة وتمنعني النطق.
وبعد أنْ تمالكني البكاء بصمت ودموع ساكبة.
قلت لها: يمّه هاشمية، حبيبتي أنه قاسم.
قالت: لا يمّه، قاسم حلو، وزغيرون، وما مشيّب.
يمّه، والله أنه قاسم، وهذا عمّي سيّد جاسم، وحتّى تعرفين أنه قاسم راح أعدد أسماء أخوتي، وأنتِ هاشمية ساري، أمّ حاتم ومزهر، وعليّ، وعبدالله.
أغمي عليها وهي تعانقني.
السيّد جاسم ينشجُ، وقال بصوت متهدج لأمّي : ولج اسكتي خلي نشفوفه.
أجلستها وجلسنا على الأرض، والكلّ يبكي علينا. وأمي تكرر: يمّه ريحتك ريحة ابني، بس ابني زغيرون، وأنا اكرر القول والتأكيد :أنا قاسم، وأتفنن بمسح دموعي وكبت عبراتي والتعريف والتأكيد لها: أنا قاسم.
تأكّدت: هذا هو قاسم.
دقائق أفاقت أمّي سألتها عن كلّ السنين، وعن الباقين من أخوتي وأهلي.
قالت: لم يبق بس عبد الله، وأخبرتني أنّها دفنت حاتم، وسألتني: أين مزهر؟ وعلي ؟.
ماذا أقول لها: ومزهر أُحرق بالتيزاب، وأخي عليّ لا أعرف عنه شيء.
قالت يمّه : ليش دشداشتك مشككة : تبسمّت، وقلت لها: عمرها عشر سنوات.
قالت: يمته يجي يوم تطلع من السجن؟.
قلت لها : ما ما أنه محكوم مؤبّد عشرين عاما.
قالت: خاف يسلمونك إلي من الطب العدلي مثل اخوك. وأنه ما جبت إلك دشداشة عبالي راح استلم جنازتك مثل حاتم.
خرجت أمّي، وقبل الخروج من الباب ألقت إليّ بنظرة وعادت مسرعة تقبّلني، وهي تقول :
آخ يا يمّة، احاه يا نار كلبي...
ولك راح أموت، موتوني يمه.
https://telegram.me/buratha