محمد صادق الهاشمي ||
قال أميرُ المؤمنين (ع): «وأمّا بعد، فلا تُطوّلنَّ احتجابك عن رعيّتك؛ فإنّ احتجابَ الوُلاة عن الرّعيّة شُعبةٌ من الضَّيق، وقلّةُ علمٍ بالأُمُور» .
الفرقُ بين الضَّيقِ (بالفتح) والضِّيقِ (بالكسر): أنّ (الضَّيق) في الصّدر، فمن لم يتسع صدرُه فهو في ضَيقٍ، قال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}، فهو مقابل سعة الصّدر. وأمّا (الضِّيقُ) فهو في المال، فيقال: الرّجلُ في ضِيقٍ: أي في نقصٍ مادّي، فهو في ضائقةٍ.
أي يا مالك: يجبُ أنْ لا تغيبَ عن الأمّة بشكلٍ لا تعرفُ عنك شيئاً، ولا تضعْ ببابك حاجباً لا يسمحُ لذوي الحاجات أنْ يلتقوا بك؛ فإنّ احتجابَ الولاة فيه أضرارٌ منها :
(أ). إنّه « شُعبةٌ من الضَّيق»: أي أنّه مصداقٌ من مصاديق عدم سعة الصّدر التي لا تليقُ بمَنْ يتصدّى للقيادةِ.
(ب). إنّه يسببُ لك «قلّة علمٍ بالأمور»: لأنّ الإحتجاب عن الأمّة يقطع عنك أعظمَ رافدٍ من روافدِ المعرفة بما يجري في البلد من ورائك؛ وسوف يكون المحيطون بك، ومن يشكّلون طبقة حاشيتك هم مصدر معرفتك، وهؤلاء لا يوصلون لك إلّا ما يضمنُ رضاك عنهم، واستمرارهم في مناصبهم، فلا يكنْ هؤلاء مصدرَك الوحيد، ولا يكونوا النّافذة الوحيدة التي تطلّ على الأمّة من خلالها؛ بل الأمّة أعظم وأصدق نافذة لك، ولذا قال (ع): « وإنّما الوالي بشرٌ لا يَعرفُ ما توارى عنهُ النّاسُ به من الأُمُور، وليستْ على الحقّ سماتٌ تُعرفُ بها ضُرُوبُ الصّدق من الكذب، فتحصّن من الادخال في الحُقُوق بلين الحجاب»: أي إنّما أنت بشرٌ، وقد تختفي عليك كثيرٌ من الأمور، إذْ قد يُخفي النّاسُ عنك أسراراً مهمّة، فإنْ لم تلتقِ بهم فسوف تفقدُ مصدراً كبيراً من مصادر المعرفة.
والإدخال: الإفساد. أي ليس على القولِ الحقِّ علاماتٌ بارزةٌ تستطيع أنْ تعرف بها الصّدقَ من الكذبِ، والحقَّ من الباطلِ، بل إنّما تعرفُ صدق الأقوال من كذبها وحقهّا من باطلها إذا أرخيت الحجابَ للأمّة لتأتي لك بكلّ ما يوضّحُ مقصودَهَا.
(ج). قال أمير المؤمنين (ع): « والاحتجابُ منهُم يقطعُ عنهُم علم ما احتُجبُوا دُونهُ، فيصغُرُ عندهُمُ الكبيرُ، ويعظُمُ الصّغيرُ، ويقبُحُ الحسنُ، ويحسُنُ القبيحُ، ويُشابُ الحقُّ بالباطل».
بيّن (ع) مخاطر الإحتجاب عن النّاس: أنّ احتجابك مثلما يقطع عنك أخبار النّاس، كذلك يقطع أخبارك عنهم، فيضربون الأخماس لأسداس، وسيقعون في تفسيراتِ ذلك الإحتجاب في حيص بيص، فربّما يكون سببُ احتجابك كبيراً، ولكنّهم بفسّرونه بتفسيرٍ صغيرٍ، وربّما يكون سببه صغيراً فيفسّرونه بأمرٍ عظيمٍ، أو يكون سببه حَسَناً فيفسّرونه بأمر قبيح، ويختلطُ الحقّ بالباطل.
كنْ واضحاً مع الأمّة وأعلمهم بوجودك وغيابك، واشرح لهم ما يجري في البلد من كلّ شأنٍ داخليّ وخارجيّ، ولو من خلال مؤتمرٍ اسبوعي أو نصف شهريّ، ولذا قال (ع): «... وإنْ ظنّتِ الرّعيةُ بك حيفاً فأصحر (فكن واضحاً) لهم بعذرك، وأعدلْ عنك ظنونهم بإصحارك؛ فإنّ في ذلك رياضةً منك لنفسك، ورفقاً برعيّتك، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ».
وأخذ (ع) على نفسه عهداً لأمّته فقال (ع): « ألا وإنّ لكم عندي ألّا أحتجزَ دونكم سرّاً إلاّ في حربٍ، ولا أطوي دونكم أمراً إلاّ في حكم».
(د). يا مالك: لماذا تُخفي شخصك عن الأمّة؟ فإنّما أنت أحدُ رجُلين:
(أ). إمّا امرُؤٌ سخيّةٌ نفسُه معطاءٌ وفق ضوابط الحقِّ فَفيمَ احتجابُك من واجبِ حقٍّ تُعطيه، أو فعلٍ كريمٍ تُسديه؟ .
(ب). وإمّا أنّك شخضٌ مبتلى بالبخل والشّحِ فالنّاس سيمتنعون عن أنْ يسألوا ويطلبوا منك إذا يأسُوا منك ومن عطائك. مع أنّ أكثر حاجات النّاس إليك ممّا لا يتطلّبُ منك صرف مال، كما لو كانت حاجتهم أنّهم يشكون من ظلم قد وقع عليهم في دوائر الدّولة أو من أحدِ العباد . فانتفع يا مالك بما وصفتُ لكَ، واقتصرْ على حظّك ورُشدك .
نسألُ الله لنا، ولمن تصدّى لزمام الأمور أنْ تكون توصيات (ع) نبراساً يهتدى به.
https://telegram.me/buratha