حمزة مصطفى ||
في القران سورة كاملة حملت إسم "الشعراء" بوصفهم أداة للغواية " والشعراء يتّبعهم الغاوون. كما إنهم "في كل واد يهيمون" و"يقولون مالايفعلون". هل ترك هذا الحكم القراني أثره السلبي على الشعراء؟ لا أظن ذلك. حتى النقد عبر العصور لم يتوقف طويلا حيال هذا الوصف والتوصيف طالما إنه يقترب من المساحة التي يتحرك فيها الشاعر بين منطقتي الواقع والخيال وبينهما الغواية. فالشاعر رائي ومتخيل كبير. بل حتى النبي محمد (ص) حين أراد كفار قريش إتهامه بمايبدو ظاهرا إنه لايليق قالوا إنه "شاعر" طبقا للآية 5 من سورة الأنبياء "بل قالوا أضغاث أحلام بل إفتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون". صحيح أن الدلالة تبدو سلبية إذا قارنا منطق كفار قريش بين النبي صاحب الآيات أي المعجزات وبين الشاعر الذي لايملك سوى القول. لكن هذا القول حتى لو كان مبالغا به فهو مقبول لديهم حتى قالوا "أعذب الشعر أكذبه" وهو قول مجحف بحق حقيقة الشعر ومهمته.
الشعر في النهاية قول والشاعر قوّال. والشعر نبوغ وبعضه عبقرية بحيث يجبرك أن تكون "غاوي ونص". الأ يستحق هذان البيتان لأمرئ القيس أن تهيم بهما وحولهما "وقد أغتدي والطير في وكناتها .. بمنجرد قيد الأوابد هيكل.. مكر مفر مقبل مدبر معا .. كجلمود صخر حطّه السيل من عل". وكيف لاتهيم خلف لبيد بن ربيعة القائل في معلقته التي هي من عيون الشعر وخشومه وآذانه إن كانت للشعر فوق العيون خشوم وآذان "وجلا السيول عن الطلول كأنها .. زبر تجدّ متونها أقلامها". وهل من بيت في الشعر العربي قاطبة أجمل من بيت حسان بن ثابت بحق النبي محمد (ص) القائل "خلقت مبرءا من كل عيب .. كأنك قد خلقت كماتشاء" حيث المبالغة هنا لاتستقيم دلاليا الإ مع عظمة الممدوح. فهذا البيت لو كان بحق أي إنسان آخر لكان مجرد لغو فارغ.
وأين تضع بيت المتنبي الذي حمل 5 مطابقات "أزورهم وسواد الليل يشفع لي .. وأنثني وبياض الصبح يغري بي". وكيف لاتهيم خلف مالك بن الريب محاورا حاملي نعشه قبل سريان سم الحية في جسده حيث سيدفن "يقولون لاتبعد وهم يدفنونني .. وأين مكان البعد الإ مكانيا". في مقابل ذلك هناك "ملخيات" كثيرة لدى الشعراء تبدو في غالبها خيالا فاسدا. فهل إخترع أبو العلاء الجاذبية بدل نيوتن حتى يقول "إني وإن كنت الاخير زمانه .. لآت بما لم تستطعه الأوائل". ومع أن المتنبي يشكو حاله كثيرا في سياق عتابه لسيف الدولة "أعيذها نظرات منك صادقة .. أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم" أو "أرى كل يوم تحت ضبني شويعر .. ضعيف يقاويني قصير يطاول" لكنه يمضي بعيدا في تضخيم الذات حين يقول "وماالدهر الإ من رواة قصائدي .. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا". أما دعبل الخزاعي فقد "زودها حبتين" حين يقول "إني لأفتح عيني حين أفتحها .. على كثير ولكن لا أرى أحدا", في حين كان بشاربن برد لا غاويا ولامغويا في مطابقته الشهيرة بين العين والأذن "ياقوم أذني لبعض الحي عاشقة .. والأذن تعشق قبل العين أحيانا". أما السياب فقد "خله عينه بعين الله" شاكرا حامدا "مهما إستطال البلاء .. ومهما إستبد الألم".
https://telegram.me/buratha