المقالات

الحضارة المسروقة!.. 

1420 2021-08-25

  د.جهاد العكيلي ||

 

من التأريخ نتعلم ومن دروسه نستفيد، ومنه أيضا نتعلم كيف يُمكن أن تبنى الأوطان، طبعا بعد دراسة عوامل القوة والضعف فيها، والتي من خلالها ينطلق المسار الصحيح للشعوب وهي تسعى للبناء المقصود، وهذا ما إعتمدت عليه الدول المتحضرة والمتطورة وبموجبه بَنت وشيدَّت صروحا علمية في غاية الرُقي والجمال الذي تتغنى به شعوبهم .. ومسارات هذه الدول المتطورة بَنت حضاراتها وهي كثيرة، وصرنا نحن في العراق ودول أخرى نشير إلى هذا المسار المتحضر بالبنان وننظر له بعين الاعجاب والتقدير، ذلك أن هذه الدول عرفت كيف تفهم حركة التأريخ، وكيف تستوعبه بدروس وعبر، رغم أن هذه الدول تعرضت غالبيتها لحروب طاحنة وقصص وحوادث مأساوية مخيفة إلا أن ذلك لم يمنعها هي وشعوبها من التدوين لهذه المأساة، بل وذهبوا بعيدا حين إلتزموا بتطبيق قوانين دولهم وأظهروا لها المزيد من الاحترام، وهم أمر لم يدفع بهم على الاطلاق لبيع اوطانهم لقوى غاشمة تريد بهم الهلاك، ولم يسرقوا ثروات شعوبهم ويضعونها في بنوك الدول الاخرى المغلوب على أمرها، ولم يسرقوا موجودهم الحضاري وتراثهم الذي يمثل حركة مهمة من تأريخهم، ويضعوها في أسواق دول أخرى .. إن مسار الشعوب الصحيح هذا يُذكرنا كيف أن القضاء الالماني حكم بالإعدام  على موظفة كانت تعمل في متحف برلين تحيك السجاد، أبان الحرب العالمية الأولى حين سرقت المتحف الذي اؤتمنت على حراسته، وعدَّ القضاء أن هذه السرقة تعتبر بمثابة سرقة لحضارة المانيا شعبا وتاريخا، وبطريقة الردع القانوني هذه حافظت المانيا ودول أخرى على موروثها الحضاري التأريخي، وبَنت سمعتها ومكانتها على هذا الاساس مما جعل لشعوبها هيبة أمام شعوب الدول الاخرى ..  أما نحن العراقيون سرقنا أنفسنا قبل أن نسرق تأريخنا وحضارتنا بعد أن سمحنا للتحالف الامريكي أن يدمر أهم المواقع الحضارية والاثرية في العراق، ولم نتصدى لقوات الاحتلال حين إتخذت من هذه المواقع إقامة ثكنات لها حتى صارت عرضة للتخريب والتدمير بفعل حركة عجلات الاحتلال، وربما سرقة الكثير منها ذات الارث الغائص في التأريخ لا سيما ما يتعلق منها بحضارات بابل وسومر والكلدانيين والاشوريين في وقت كان فيه شعب العراق على مدى التاريخ يتفاخر به بين الشعوب بإعتزاز ..  وحين تتسنى لك فرصة بزيارة إستكشافية لمتحف اللوفر الإماراتي والمزاد العلني كرستي في بريطانيا سيصيبك الذهول وأنت ترى بأم عينك كيف أن موجودات التأريخ العراقي وأرثه الحضاري واللقى الاثرية الموغلة في القدم تتوسد بحزن على رفوف العرض والبيع ..  ويقينا أن ذلك لم يكن ليحصل لو تصدى العراقيون لهذه الظاهرة الغريبة يقابله صمت سياسي وحكومي مطبق لم يحدثنا به أحد وإن تحدث به أحد الاقطاب فإنه لا يعدو عن كونه التغني بموروث حضاري من حيث يدري ولا يدري كيف تعرض هذا الارث إلى نهب منظم ..  والطامة الكبرى أن نقول أن عملية نهب الموروث الحضاري لم تكن لتحصل على هذا النطاق الواسع لولا تعاون بعض الجهات المسؤولة مع مافيات دولية مختصة بسرقة هذا الموروث لا سيما في جنوب العراق (الناصرية ــ العمارة ــ الديوانية ــ السماوة) بهدف إفراغه من كل شيء، يقابل ذلك ما شهدته بعض مناطق هذه المحافظات من سرقة للقى أثرية مهمة كالأختام الاسطوانية والقطع الذهبية ومخطوطات ورسومات بالألواح الطينية تختزنها تلول أثرية نُفذت للأسف بأيدي ساكنيها لحساب مهربين ..  أمام هذه المشاهد المحزنة لا يزال السكوت الشعبي والصمت الحكومي هو السائد لعدم متابعة هذه التلول وكنوزها الاثرية المنتشرة في هذه المناطق، والكل يعلم كيف أن تراب هذه التلول صارت تباع بالمكيال لحساب مشترين من إجل إيجاد قطع أثرية نادرة، ومعروف من الناحية الجغرافية أن هذه التلول كانت يوما ما بيوتا تطل على الأنهار لكن بعد تحول مسار هذه الأنهار إنطمرت تلك البيوت وتحولت إلى كنوز مدفونة ، ليتم بيعها في الداخل او تهريبها خارج العراق ..  وهنا يمكننا القول بأن العراق لا يملك صلاحية إعادة هذه اللقى الاثرية لأنها لم تختم بـرمز (م ــ ع) وهو الرمز الذي يشير إلى عملية تقيدها في السجل العراقي المعتمد من قبل هيئة الاثار والتراث، ما يصعب عملية إستردادها ..  لقد حدث كل ذلك للأسف بأيدي عراقية، وبأدي أجنبية من مافيات ومهربين، ولم نشهد أي محاسبة منظمة للذين يقفون وراء نهب وتدمير هذا الموروث العراقي الحضاري بل تم دفن قصص السراق والمتعاونين معهم في مكاتب المسؤولين وليس على غرار قصة حائكة السجاد الألمانية .. وكم أتمنى أن نرى في يوم ما أن يُقيم العراق متحفا يضم أسماء وصور هؤلاء السراق والمتعاونين سواء أكانوا رجالا أم نساء تحت إسم متحف سراق الحضارة ..
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك