المقالات

في جنازة أبي ليث الكاظمي

1288 14:15:00 2008-04-17

( بقلم : حيدر العكيلي )

ليست هي المرة الاولى التي اسير فيها في تشييع جنازة, ولا حتى المرة الاولى التي ارافق جنازة الى مثواها الأخير ( الدفن) .. لكنها المرة الاولى التي تنكشف فيها مشاعري على امور .. أبو ليث الكاظمي ذلك الرجل الذي لم اعرفه طويلا, منذ عام فقط التقيته لاول مرة في مؤتمر .. ثم بعدها عين زميلا لنا في الدائرة التي اعمل فيها .. رغم ان كل ذلك غير كاف لأكون عنه فكرة شاملة الا انه على مايبدو من النوع الذي تنطق صفاته عنه دون كلام .. لان أي شخص كان يمكن ان يحس بدماثة خلقه وسمو نفسه وسمته العالي.. ذلك الرجل الهادي ذي النظرات والحركات الجادة تلوح الطيبة ولين الطباع من قسمات وجهه , الرجل الذي عاش شطرا من حياته محاربا ضد الظلم والطغيان والذي نذر نفسه كليا للعراق كان قد انتزع احترام الجميع دون عناء. أدركت وإنا أسير خلف جثمانه ان كل ما رافق موته من حفاوة إنما كان يستحقها .. فمنذ الاعلان عن استشهاده في بعض القنوات العربية وقد قيل حينها ان (مستشارا للمالكي قد قتل ) في أحداث البصرة الاخيرة "صراع الإخوة الأعداء" !! رغم انه لم يكن مستشارا لا فعلا ولا وظيفية إلا ان مكانته التي بناها بتاريخه الحافل ترتفع بكثير عن منصب المستشار وعن كل الدرجات الوظيفية .. ان جنازة الشهيد ابا ليث لم يخطط جيدا لمسيرتها ورغم ذلك فان التشييع بدا مهيبا ابتداءا من نزول جثمانه في مطار بغداد وتصرف المستقبلين له وليس فيهم من يعرفه أو ينتمي الى نفس الفئة التي ينتمي إليها وتعاملهم مع جثمانه بكل مراسم استقبال القادة .. وحتى في مثواه الاخير في مدينة أمير المؤمنين حيث سار ركب مهيب تتقدمه فرقة موسيقية عسكرية تعزف لحنا جنائزيا وحشد كبير من كبار الشخصيات ورجال الدين والدنيا في محافظة النجف الاشرف مما لم يعهده العراقيون الا لكبار الشخصيات, رغم ان الرجل لم يكن من أهل المناصب التي زهد بها وتكالب عليها غيره .. وكان الدنيا أعطته في وداعه الأخير مصداق الحديث الشريف ( من تواضع لله رفعه) ومن هنا انكشف أمامي هوان الدنيا وضئالتها .. حيث كنت انظر للمشيعين المكتسين بملامح الحزن من اعلى المناصب والرتب والدرجات الى أدناها مفكرا فيما إذا كان احد هؤلاء قد تذكر يومه الموعود .. متى وأين سيكون وكيف سيدخل الى العالم الأخر ؟؟ ان أبا ليث قد عبر الى الضفة الأخرى ودخل ذاك العالم من بوابة واسعة .. فهل سيكتب لي ان أحظى بقبر في ذلك الجوار كما هو الآن .. كنت دائما احمل ذلك الهاجس حتى في سني المهجر, كم خشيت ان اسلم الروح وأنا في ارض غريبة عن العراق .. ان موت الحاج سليم قاسم أبو ليث الكاظمي قد أصاب الوسط الذي هو فيه بصدمة كما أراد الحديث ( كفى بالموت واعظا ) , فيبدوا أنها سنة جرت على البشرية, من يؤمن بالأديان أو لا يؤمن .. فهل يجب ان نفقد عزيزا أو شخصا مقربا حتى نشعر بالموت ؟؟ نعم .. هكذا هو الحال , فنحن نسعى بتلك الأجساد بحثا عن كل ما تشتهيه .. الجاه والمال والجسد والولد والمنصب وغيرها من الرغبات التي تنفتح أبوابها أمامنا كلما نلنا منها حظا اكبر فسوف نتطلع الى المزيد .. نحن بالتأكيد متناسين ان هذه الأجساد التي نسعى بها ما هي الا أقفاص تقبع أرواحنا البريئة وراء قضبانها حبيسة ذلك البناء الذي يسمى البدن نحمل عليها أثقالا فوق أثقال ونعلق عليها أوزارا فوق أوزار, ثم إذا غادرنا بها الدنيا, ابتليت تلك العوالم الشفافة بأعمالنا حتى انها لم تعد شفافة كما خلقت .. أترى ذلك هو ظلم النفس ...؟؟

لست اعرف هل إنني لوحدي من ينتابه شعور السكينة في المقابر ؟؟ صدق القائل ( ان التفكر عبادة ), السير في المقبرة المترامية الأطراف كمقبرة (وادي السلام ) في النجف الاشرف هو بالتأكيد شئ مدهش ولا عجب فهي الأكبر في العالم على الإطلاق .. ليت من يسير فيها له روح الحلاج او ابن الفارض كي يرى تقاسيم الليل والنهار بوضوح .. كيف تتعاقب الأيام بلياليها ونهاراتها امام عينيه بما يعنيه هذا الكم الهائل من القبور التي تحتوي رفاتا من اجساد شتى, واعمارا شتى .. يعني اياما وشهورا وسنينا وعقودا طويلة .. تعني أعمارا بآلامها وآمالها وأفراحها وأحزانها .. نجاحاتها إخفاقاتها, بما كسبت من سئ ومن حسن.. اناس رحلوا بالخفيف مما حملوا على ظهورهم , أدوا ما عليهم, لم يتسابقوا على نيل مما ليس لهم , وآخرون مضوا بالحمل الثقيل اوزارا واثقالا كانوا قد اطلقوا لأنفسهم العنان في ان تنال ما تشاء مما تستحق او لا تستحق مما لهم او ليس لهم, فالناس كلهم لهم شهوة المال والجاه والمنصب والجسد لكنهم يختلفون في كيفية اشباعها لان الخالق قد منحنا الى جانب الشهوات, أدوات نستطيع بها ان نكبح جماحها وأهمها العقل .. ولنا ان نتخيل شخصا في سفر طويل وهو يحمل على كتفيه كيسا فيه مئة كيلو غرام, وأخر سار في نفس الطريق يحمل كيسه بكيلو غرام واحد .. أحمال وأثقال نضعها على أكتافنا يوما بعد يوم بتعاقب السنين .. آه ما أثقل ذلك !! والنهاية واحدة إنها هناك في ذاك الوادي الساكن في واحدة من تلك الاحافير المتقنة .. لقد رحل أبو ليث الى الحياة الأخرى واخذ معه صرته التي ملئها "بما خف حمله وغلا ثمنه" لا ذهبا ولا جواهر لكن مفاخر ومآثر .. وكل الذين يسيرون خلف جثمانه, لابد يوما به لاحقون, سيجرف كل منهم في مجرى الحياة الأولى الذي يصب في الآخرة , فهل نتمكن ان نفعل كما فعل أصحاب الحظ العظيم من ان نحمل ما خف حمله وغلا ثمنه ؟؟

لا يتصور البعض ان هذا كلام اليائسين الذي لا يحبون الحياة بل العكس تماما فهذه مفاهيم من يحبون الحياة الى درجة لايكفيهم كل ما فيها فهم يطلبون المزيد .. فهم يأخذون حظهم منها ويبتغون حياة أخرى أرحب واكبر وأنقى وأغنى .. يصدقون بخالق الحياة الذي يقول ( وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) وأخيرا السير في جنائز الرابحين بل وحتى الخاسرين ما هي إلا نوع من التدريب العملي للاحياء على مسيرة الخلود !!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك