محمد مكي آل عيسى ||
لم أسمع بهذا اللفظ ولا أدري إن كان صائباً لاعتماده أم لا ، لكنني لم أجد له بديلاً . . سمعنا بعسكرة المجتمع أي جعله عسكرياً ، أسلمة المجتمع جعله إسلامياً ، علمنة المجتمع جعله علمانياً ، أمركة الشعوب جعلها شيطانية وعلى غرار ذلك عنونت كتابتي بـ أرضنة الإنسان والمراد من ذلك جعله وتصييره كائناً أرضياً !
وهل هو إلّا كائن أرضي ؟!
قد يبدو ذلك للوهلة الأولى من خلال قراءة الواقع فالواقع يجزم بأن الإنسان كائن لم يجد غير الأرض مسكناً ووطناً ليعيش عليه ولا يدري هل هناك بديل لكوكب الأرض هذا ، بعد أن عاث فيه فساداً وتدميراً ؟. جميع الدلالات والمؤشرات تبين أن لا بديل له حالياً عن الأرض ولا حتى في المستقبل القريب بل وحتّى البعيد ، وعلى ذلك يكون الإنسان كائناً أرضياً متمحضاً في أرضيته ليس بمقدوره الانفكاك عنها بأي شكل من الأشكال ، منها خُلق ومنها يأكل ويشرب ، وعليها يعيش ويتنقل ، وإذا مات فهي مثواه الأخير.
وما جاء في كتب السماء يؤيّد ذلك فالقرآن يشير لذلك فيقول { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }
{ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }) { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا }
وظرفية الأرض واضحة للمتأمل كما وردت إشارات على ذلك في كتب العهدين وكلها تبين أرضية الإنسان . .
نعم فالإنسان من حيث تكوينه البدني لا يتعدى ظرف الأرض فهو ببدنه كائن أرضي
لكن كلامنا ليس محدداً بإطار البدن الأرضي وإنما نتعدى ذلك منطلقين إلى ما وراء البدن . . إلى كيان آخر يمثل حقيقة الإنسان لا صورته إلى تلك الحقيقة الثابتة التي تنطلق من البدن وعالمه الأرضي لتخترق السماوات تلك الحقيقة التي تنتمي للعالم الأعلى.
لقد تعامل الحق جل وعلا مع الإنسان وفق هذه النظرة ، بمعنى آخر أن الله ينظر للإنسان بنظرتين إحداهما لبدنه والأخرى لتلك الحقيقة الثمينة التي يصفها جل جلاله بأنها روحه { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } وأسماها نفساً وتحدث عن بقائها دون البدن فقال { اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فبين جل وعلا لنا أن للإنسان نفس ما وراء البدن تبقى حية من بعده لا تزول بزواله.
وكانت لها الأصالة قبال البدن وكانت هي تلك الأنا التي يتحدث عنها المتكلم في أول عمره لآخره وكانت هي التي تمثل حقيقة الإنسان
ولمّا كان الاعتبار الإلهي للإنسان يتوجه نحو تلك الجوهرة الملكوتية كان الاهتمام الإلهي بأن يحلّق بالإنسان من أرضيته إلى ملكوتيته فينظر للدنيا أنها مزرعة الآخرة وأنها متجر أولياء الله وأن على الإنسان أن يوجّه اعتباره تجاه إنسانيته الحقيقية تجاه ملكوتيته فيعمل على تطهيرها ونمائها لتغادر عالمها المظلم نحو كماله المطلق فتستقر في عالم النور.
ولأجل ذلك بعث الله أنبياءه وأنزل شرائعه لينبه الإنسان من غفلته ويعيد له رشده فلا يبقى أسير بدنه وعالمه الأرضي بل يكسر قيود المادة ليتكامل من خلال اتباع تلك الرسالات الحقّة بعد أن زوده بتلك الدوافع الفطرية التي تدفع به بهذا الاتجاه مادامت تلك الفطرة سوية لم تنحرف عن خلقتها فالجانب الإلهي اعتمد على القوة الدافعة الّتي تزوّد بها الإنسان من معارف أولية وميول فطرية تعاضدها شرائع السماء لتدفعه فيرتقي نحو سماء الكمال والرفعة فيقول الحق سابقوا ويقول سارعوا ويقول اعملوا واهربوا من نار حامية
وبالمقابل ، عمل الشيطان وجنوده من الإنس والجن من طواغيتٍ وحكامِ سوءِ ، من قوى استكبارية ومن أنظمة جائرة عملوا على جذب الإنسان ليخلد إلى الأرض توجهوا لإلغاء الجانب الملكوتي السماوي الّذي يمثّل حقيقة الإنسان ليقتلوه في داخله فيفسحوا المجال بذلك لشهواته ورغباته ، لهواه وما يرغب حتى تكون هي الحاكمة في مملكة نفسه.
لك ما تريد من مأكل ومنكح بلا قيود تُفرَض ولا تكاليف تُشرَّع . . عش حرّاً ما استطعت . . حّطم كل ما يذّكرك بأنك من أهل السماء تمرّد على دينك وقيمك وأخلاقك ، قم بالثورة على كل ما ينظم حياتك ، أترك قيد الأسرة وقيد الجامع وقيد العلم وقيد الأدب وحتى قيد اللغة والتاريخ.
عُد أرضيّاً عُد طيناً . . من صلصال كالفخار . . من حمأٍ مسنون . . حتى نكون نحن من يعجنك مرة أخرى ونصيّرك كما نريد . . فلن تكون خلقاً آخر . . لن تكون روحاً . . لن تكون ملاكاَ . . ابق في الأرض لا تبرح . . . لا ترتق . . افرح وامرح وامرع
وطّدوا علاقته مع الأرض وما فيها ليُحكِموا وثاقه بها ليثّاقل إليها كلما دعته السماء ليرقى ، جذبوه بكل ما استطاعوا من مغانط المادة وألوانها وزخارفها ليموت الإنسان السماوي فيه وليبقى الأرضي ، بل ليموت الإنسان ويعيش الحيوان .
أرضنة حقيقتها حيونة
https://telegram.me/buratha