علي علي ||
منذ أكثر من أربعة عقود، هجرنا طيف الألوان وترك ساحتنا العراقية وأزقتنا وبيوتنا، مجرجرا أذيال الخيبة والخذلان وسوء الظن بـ (437072 ) كم2 من المعمورة، ولم يبقَ من ذكرى ذاك الطيف إلا لون واحد، بات علامة مسجلة و (ماركة) ممهورة باسم العراقيات.
- الأحمر.. لم يعد يزورنا إلا في عيده، وما أقصره من عيد! وما أكثر احتياجنا له! قد رضينا بزيارته اليتيمة كل عام مرة واحدة، متأملين تكرارها ولو مرتين، متوسلين ببيت شعر قالته الأعراب قديما، حيث كانوا يزعمون ان الديك يبيض مرة واحدة في عمره:
قد زرتِنا زورة في الدهر واحدة
ثنّي ولاتجعليها بيضة الديك
- الأصفر.. رزم حقائبه بعد ان انتفت الحاجة اليه بيننا، وهو كما يقال عنوان الغيرة، حيث اعتد كل واحد منا بآرائه حد التيه، واتخذ من الأنا غاية ووسيلة في الآن ذاته، ورفع شعار: (الحياة أخذ وأخذ) حيث لاعطاء لديه، ولم يعد يرى في الآخر إلا ضدا وندا، وغاب عن مخيلتنا أننا جميعا على أٌقل تقدير "نظراء في الخلق".
- الأخضر.. تأبط على الحدود العراقية جواز سفره مختوما باللون الأحمر (ذهاب فقط)..! والأخضر كما هو معلوم لون الرياض والواحات الغناء التي رغَّبَنا فيها بارئنا بقوله: "إن للمتقين مفازا* حدائق وأعنابا". ماعاد هو الآخر يغطي -كما كان- مساحات من محافظات عراقنا، وينشر سكينته على مدننا ومحلاتنا وشوارعنا، مطيبا هواءها، منقيا نسيمها، كما قال فيه الجواهري:
هواؤكِ أم نشر من المسك نافح
وأرضك يا بغداد أم جنة الخلد!
فحل الجدب والتصحر ربوعنا -وقلوبنا- ونابتْ عن ورود الـ (روز) والـ (رازقي) والـ (جمبد) والـ (قرنفل) شجيرات الـ (عاگول) والـ (صبار) والـ (سعدان) والـ (طرفاء).
- الأزرق.. سماؤنا هي الأخرى رحلت عنها زرقتها، بعد أن كانت كعين الديك صافية، وتلبدت بغيوم دخيلة حجبت لآلئ كانت ترصعها.
ويطول المقال في هذا المقام عن باقي الألوان التي هجّرناها قسرا عن عراقنا بأفعالنا وسلوكياتنا لكن، لابد لكل مهاجر من إياب. هي دعوة إذن لمهرجان إياب يجمعنا مع الألوان كلها، فمنذ أربعة عقود، قاطعتنا الألوان الزاهية البراقة، لالذنب جنيناه، ولا لإثم اقترفناه، ولم نكن سوداويين فنرفضها، لكن عذرا ما قد يشفع لنا، فلنسمِّ ماحصل في تلك العقود أضغاث أحلام، أبعدتنا عن التزين والتجمل بزاهي الألوان. هو عتاب إذن لمن لايفيق من حلمه ويسعى الى تحقيقه إن كان ورديا، ويدحضه إن كان كابوسا. وهي أيضا دعوة للتسامح وطي صفحات معتمة، وفتح صفحة بيضاء تتقبل كل الألوان.
منذ أربعة عقود، لبسنا غير زيِّنا، وتنكرنا لكرنفال خدعنا فيه السينارست، فكان ماكان من شطط فيما بيننا، وجفاء طال ودَّنا، وعداء نال من صفائنا، فكنا كمن يعبث بمركب في عرض البحر وينشد النجاة، وماأبعده عنها، كقول ابي العتاهية:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لاتجري على اليبس
طيلة أربعة عقود مضت، كانت للعراقيين خلالها خبايا ومفاجآت غير سارة، فمن أمهات ثكلن بأولادهن، ونساء رمّلهن بفقدان زوج، وأطفال يتّمتهم يد الموت وسرقت منهم عنوة أمان الأب وحنانه، توشحوا جميعهم على حين غرة بالسواد، وتلابس معهم هذا اللون قلبا وقالبا، مظهرا وجوهرا، حتى بات لون العزاء والعرس لديهم سيان
هي دعوة مفتوحة الى جميع العراقيين، فلنفتح صدورنا أمام طيف الألوان، ولنهيئ له أرضية خصبة نبدأها من دواخلنا، بالنيات السليمة والمحبة الخالصة وروح التآلف والوئام، وليكن لون الحب أولها، فبه لابغيره نصل بر الأمان، أما ساستنا الحاكمون، فعلى أغلب الظن أن لديهم عمى ألوان، والكلام معهم بلغة الألوان الزاهية كنفخ في قربة مثقوبة.
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha