الشيخ محمد الربيعي ||
■ قال الإمام علي (ع) لرسول الله (ص): «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ لَتُحِبُّ عَقِيلاً؟ قَالَ: إِي وَاللهِ، إِنِّي لَأُحِبُّهُ حُبَّيْنِ: حُبّاً لَهُ، وَحُبّاً لِحُبِّ أَبِي طَالِبٍ لَهُ، وَإِنَّ وَلَدَهُ لَمَقْتُولٌ فِي مَحَبَّةِ وَلَدِكَ، فَتَدْمَعُ عَلَيْهِ عُيُونُ المُؤْمِنِينَ، وَتُصَلِّي عَلَيْهِ المَلَائِكَةُ المُقَرَّبُون.
ثمّ بكى رسول الله (ص) حتّى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال: إِلَى اللهِ أَشْكُو مَا تَلْقَى عِتْرَتِي مِنْ بَعْدِي».
■ مقدمة تاريخية عن الكوفة
الكوفة هي تلك المدينة التي اختطها قادة جيوش المسلمين لتكون مجمعاً لجيوشهم للاستراحة في طريق إكمال مهامهم العسكرية الملقاة على عاتقها من قبل السلطات الحاكمة في المدينة المنوَّرة، قالوا: "أسسها سعد بن أبي وقاص كمعسكر، عام 638م، بعد معركة القادسية زمن خلافة عمر بن الخطاب بالقرب من مدينة الحِيرة، حاضرة المناذرة. (عاصمتهم)، وقد دُمجت المدينتان عام 691م في عهد عبد الملك بن مروان، وكانت تسمى قديماً ب (كوفان)، و(كوفة الجُند)، ثم أُطلق عليها اسمها (الكوفة) وهي المعروفة بها إلى يومنا الحاضر.
في رجب سنة 36 هـ حين شرفها الإمام علي بن أبي طالب (ع) حيث جعلها عاصمة الخلافة والدولة الإسلامية، فغيَّر في الأقسام القبلية للكوفة وأجرى بعض التنقلات بين القبائل وحفر فيها بئراً ليس هنالك أعذب من مائها.
وفي عهد المغيرة بن شعبة (ت سنة 50 هـ) بُنيت جدران بيوتها باللبن، وفي عهد زياد بن أبيه (ت سنة 53 هـ) شُيِّدت بالآجر، وأول ما شيَّد أبواب الدُّور، وأول دُور نهضت كانت بشارع كندة، وأول شيء اختطه أبو الهياج الأسدي في الكوفة مسجدها في وسطها على بعد 1.5 كم من الفرات، وحفر خندقاً عليه، وبنى في مقدمته صِفَّةً من رُخام الأكاسرة، جيء به من الحِيرة، وكان يتسع إلى 4 آلاف إنسان وزاد به عُبيد الله بن زياد حتى صار يتسع لـ 20 ألف إنسان.
محل الشاهد :
■{{ إنّا أهلُ بيتِ النبوّةِ، ومعدنُ الرسالةِ، ومُخْتَلَفُ الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيدُ رجلٌ فاسقُ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النفسِ المحترمةِ، معلنٌ بالفسقِ، ومِثلي لا يبايعُ مِثلَه }}
وهكذا انطلق الحسين (ع)، وأعلن معارضته ووقوفه ضدّ هذا الحكم.
وانطلق بعد ذلك من أجل أن يهيِّئ الأجواء النفسيّة لخروجه من المدينة، وذهب إلى مكة.
وعندما انطلق الناس إلى منى يوم التروية قبل التاسع من ذي الحجَّة، أبدل الحسين حجّته بعمرة وترك الناس، في حين كان الناس بانتظار الحسين أن يقف معهم في يوم عرفة على جبل عرفات.
■ سؤال كان الناس يتجهون إلى منى، والحسين (ع) يتّجه إلى العراق.
لماذا؟
حتّى يعيش الناس التساؤل: لماذا لم يسافر الحسين (ع) من المدينة إلى العراق مباشرة مع أن المسافة أقرب؟
لماذا انطلق من المدينة إلى مكّة، وحوّل حجّه إلى عمرة، وترك مكة في اليوم الّذي يتجمَّع فيه الحجّاج للذهاب إلى عرفات؟ لماذا؟
حتّى يعطي الإمام الحسين (ع) الجوّ الإعلامي الّذي يتحرّك فيه الناس متسائلين، وبذلك يحصل على تغطية إعلامية تستفيد منها القضية فيما بعد، لكي يعرف الناس أن الحسين (ع) قد ثار وأنّه قد تحرّك. ويرجع الناس كلّ إلى بلده، أهل اليمن إلى يمنهم، وأهل الشام إلى شامهم، متحدّثين أن الحسين بن علي (ع) قد ذهب إلى مكّة، ورجع منها في اليوم الّذي يتحرك فيه الناس لعرفات، وانطلق بالثورة ضد يزيد، وضد الحكم الأموي.
■سؤال كانت انطلاقة الحسين (ع) بهذه الطريقة ملفتةً للنظر، فالثائر لا يخرج معه عياله وأطفاله، ولا يخرج معه عيال أصحابه، ولكنّ الحسين (ع) أخرج كل هذه النماذج معه.
لماذا؟
لكي يكون هذا الواقع واقعاً احتجاجياً أمام كلِّ من يراه، ليشعر بأن الحسين (ع) في حركته هذه أصبح مهدّداً من قبل هذا الحكم حتّى بأطفاله ونسائه، ولذا فإنه لا يأمن من هذا الحكم على أطفاله ونسائه أن يتركهم في المدينة بعد أن يثور. ثم بعد ذلك كان يهيئ لوضع آخر حتّى يضمن استمرار الثورة بعد استشهاده...
وتقدّم الحسين (ع) في الطريق وتبعه أُناس كثيرون، بعضهم تبعه على أساس أن الحسين (ع) جاء كغيره من الثائرين الذين يثورون على الحكم، ويمكن أن يحصلوا على نتائج إيجابية، وبذلك سيحصلون على النتائج والوظائف والمراكز الّتي يتمناها كل المتزلّفين.
ولكن الإمام الحسين (ع) فهم هذه القضية، وعرف أن هناك أُناساً كثيرين ممن هم معه لا يخلصون للثورة، ولا يخلصون لقضيتها ولهذا التحرّك.
لذلك وقف، وخطب فيهم، وعرّفهم بالمصير المحتوم الّذي ينتظره، فقال لهم: «وخيرٌ لي مصرعٌ أنا لاقيه... كأنّي بأوصالي هذه تُقطِّعها عِسلانُ الفلواتِ بين النواويس وكربلاء»
■ سؤال لماذا أعلن ذلك؟
ليعرف كل هؤلاء الناس الذين اتبعوه للدنيا أنّه صاحب رسالة وليس صاحب ملك، وأنّه كأبيه عليّ بن أبي طالب (ع) لم يطلب الملك أو يطلب الإمرة كطموح شخصي يسدّ به فراغ ذاته، وإنما طلبه على أساس أن يقيم به حقّاً أو يدفع به باطلاً.
■ سؤال يجب ان يسار لماذا تراجع أهل الكوفة عن نصرة الحسين (ع)؟
وبقي الحسين (ع) متقدّماً، لأنّه مصمِّمٌ على الوصول إلى النهاية في ثورته، ولم يكن إنساناً حائراً كما قد يصوّر بعض قراء مجالس العزاء، لا يعرف إلى أي بلد أو إلى أي مكان يذهب.
كان يعرف طريقه جيداً من البداية إلى النهاية، ويعرف أن القضية قضية ثورة للشهادة، وليست قضية ثورة للملك، لأن الواقع الإسلامي كان يحتاج إلى هزّه عميقة بحجم استشهاد الحسين (ع) وبحجم مأساته.
■ ولكن ما بال أهل الكوفة الذين كانوا بين ثمانية عشر ألفاً وثلاثين ألفاً يبايعون مسلم بن عقيل على السمع والطاعة، ويتراجعون بعد ذلك؟
إن الّذي حدث في العراق وفي الكوفة تحديداً ينطلق من عنصرين لا بدّ لنا من أن ندرسهما جيداً:
▪️▪️ العنصر الأول: أن عبيد الله بن زياد كان قد اعتقل قادة الثورة... اعتقل العقول المفكرة الّتي كانت تقود الناس نحو الثورة وتهيئ الناس للانتفاض على الحكم القائم. وعندما تنطلق الثورة الجماهيرية بدون عقول مفكّرة تخطّط لها، أو بدون قيادات فاعلة تستطيع أن تحرّكها وتحرّك مسيرتها، فإن من الممكن لأيّ فريق من فرقاء الحكم أو غير الحكم أن يتلاعب بها كما يشاء، لأن دور الجماهير هو دور عاطفي وانفعالي في الغالب، لذلك كانت تستجيب للمواقف الانفعالية من الترهيب والترغيب، في الوقت الّذي ندرك فيه كيف فعل الترهيب والترغيب في كثير من الذين كانوا يسيرون باتجاه القضايا الكبيرة، بَيْدَ أنّهم أمام الخوف تركوا ذلك وهربوا، وأمام الترغيب تركوا ذلك واندفعوا.
▪️▪️العنصر الثاني الارتباط العاطفي
فالقيادات الّتي قادت الثورة كانت في السجون، والجماهير كانت مرتبطة ارتباطاً عاطفياً مركزاً. كانت القضية قضية حبّ لأهل البيت (ع) وتألّم من الواقع، ولكن القضية كانت محتاجة إمّا إلى قيادة تواكبها، وإمّا إلى تحذير دائم حتّى تستطيع أن تثبت وتنطلق، ويبدو أن أهل الكوفة في ذلك الحين كانوا يعيشون الجو العاطفي الانفعاليّ في علاقتهم بالحسين، وفي رفضهم للحكم الأموي. ولهذا عندما جاء ابن زياد حاملاً السوط بيد وصرر الدراهم والدنانير بيد، استطاع أن يجمّد تلك الحالة العاطفية. ولهذا كان موقفهم يعبّر عما أخبر به الشاعر الفرزدق عندما قال للحسين (ع): إن قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
هذا ما يجب أن نتمثّله في حياتنا المعاصرة، وحياتنا في الواقع كمسلمين وكمؤمنين وكرافضين لكل كفر، ولكل طغيان، ولكل ظلم في حياتنا... إذا أردنا أن نكون منسجمين مع الخط الإسلامي القرآني الإيماني، فحياتنا يجب أن تكون ثورة مستمرة تتحرك في إطار تغيير الواقع، قد تكبر هذه الثورة وقد تصغر، لكنها في الأحوال كلها يجب أن تستمر. ذلك هو شأن الإنسان المسلم المؤمن بالله.
وإذا كان هذا هو هدفنا في حياتنا، فإن معنى أن نتحرّك في الحياة هو أن تكون حياتنا جهاداً مستمراً، من أجل إقامة الحق ومن أجل إزهاق الباطل. فلا بد إذاً من أن نقف أمام هاتين الظاهرتين اللّتين شاركتا في ابتعاد جماهير الحسين (ع) عنه في نهاية المطاف، وهما: القيادة، إذ لا بد للجماهير من قيادة أمينة على دينها ومصيرها، ووعي الأُمة للواقع.
اللهم احفظ الاسلام واهله
اللهم احفظ العراق واهله
ـــــــ
https://telegram.me/buratha