الشيخ محمد الربيعي ||
فلقد حدَّث الإمام(ع) أحد شيعته (صفوان الجمّال) الّذي كان يؤجّر جماله لهارون الرّشيد في الطريق من المدينة إلى مكَّة، وقال: "كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً... إكراؤك جمالك من هذا الرّجل". فقال صفوان: "والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا لصيدٍ ولا للهوٍ، ولكنّي أكريته لهذا الطّريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني". قال: "يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟"، قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فقال: "أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك؟"(أجرتك)، قلت: نعم، قال: "فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم". وهذا هو خطّ الوعي الّذي انطلق به أئمَّة أهل البيت(ع) في تعميق رفض الظّلم في نفوس المسلمين، وهذا هو ما نستوحيه في أنَّنا عندما نعيش في أجواء الظّالمين - أيّاً كان الظّالمون - فإنّ علينا أن نعيش البراءة منهم، البراءة في العقل بأن ترفضهم عقولنا المرتكزة على الحقّ، والبراءة في قلوبنا بأن ترفضهم لأنّها مملوءة بالعدل، والبراءة في حياتنا حتى لا نساعدهم في شيء إلا في مواقع الاضطرار، وذلك هو معنى أن تعمّق الثورة في وجدان الناس، فالثورة ليست انفعالاً وليست صراخاً ولا مغامرة، وإنّما تنطلق فكرة، وتتحرّك خطّة، وتنفتح على الأهداف من موقع عقلاني.
وكان الإمام(ع) ينهى بعض أصحابه عن التعاون مع الظّالم، ويؤكّد على البعض الآخر أن يتوظّفوا عند السلطة الظالمة لأنها كانت أمراً واقعاً، وكان المؤمنون يحتاجون إلى الكثير من الخدمات ودفع الضّرر، ولذلك كان الإمام يزرع في كلّ المواقع أشخاصاً يوجّههم لخدمة المؤمنين وإنقاذهم والابتعاد بهم عن ظلم الظّالم، وكانت سياسة الإمام الكاظم(ع) سياسة واقعيَّة، فلم يكن سلبيّاً بالمطلق من موقع عقدة، ولم يكن إيجابيّاً بالمطلق، بل كانت مصلحة الإسلام والمسلمين هي الأساس عنده، فكان سلبيّاً عندما تقتضي المصلحة الإسلاميَّة أن يؤكِّد السَّلب، وكان إيجابيّاً عندما تقتضي هذه المصلحة الإيجاب.
محل الشاهد :
وهذا ما سار عليه الأئمَّة(ع)، اقتداءً بأبيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) عندما قال: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة"، سواء كان المسلمون ممن يتمذهبون بمذهبه، أو ممن لا يتمذهبون به، فنحن نعرف أنّ أغلب النّاس في مرحلة ما بعد وفاة الرّسول(ص) وقبل خلافة عليّ(ع)، لم يكونوا في خطّ عليّ(ع)، بل كان بعضهم ممن أبعد عليّاً(ع) عن خطّ الخلافة، ومع ذلك، فإنَّ عليّاً(ع) لم يكن ينظر إلى هذا الشَّخص كيف ظلمه، وإلى ذاك كيف أبعده، بل كان ينظر إلى الإسلام من خلال مواقع المجتمع الإسلامي، وهذا هو ما يجب أن نتعلَّمة في السَّاحات الإسلاميَّة كلّها، فإذا حلّت بالمسلمين، سواء كانوا من مذهبنا أو من غير مذهبنا، كارثة، بحيث إنَّ الإسلام أضحى معرَّضاً لهجمة في أهله وأرضه واقتصاده وسياسته، فإنَّ علينا أن نقف مع المسلمين ونهدم الحواجز الّتي بيننا وبين أبناء الإسلام من أجل مواجهة الخطر الدَّاهم، وأن لا نفكِّر طائفيّاً وإنّما إسلاميّاً. وقد قلت أكثر من مرّة، إنَّ المطالبة بالوحدة الإسلاميَّة لا يعني أن يكون السنيّ شيعيّاً، وأن يكون الشيعي سنيّاً دون اقتناع، بل ليبق كلّ منهم على مذهبه من وجهة نظر فكريّة، ويجري الحوار على أساس قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ}، وذلك بأن لا يحمل المسلم عقدة ضدّ أخيه المسلم. وهذا ما يجب أن نتعلَّمه من الإمام أمير المؤمنين(ع) الذي تعلّمه من كتاب الله ومن رسوله.
وهكذا كان الإمام الكاظم(ع)، فلقد كان واقعيّاً في سياسته، وكان يدرس الواقع، فينظر إلى مصلحة المسلمين في هذا الأمر أو ذاك، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه - أيّها الأحبَّة - ونحن نعيش في واقع سياسيّ تهتزّ فيه الأرض من تحت أقدامنا، فالاستكبار العالميّ في تحالفه مع الكفر العالميّ، قد أعلن الحرب على الإسلام كلّه، وعلى الإسلام كلّه أن يبرز إلى الكفر والاستكبار كلّه، ولنتذكّر كلمة النبيّ(ص) في وقعة الخندق عندما قال: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه". فلقد كانت قوّة الإسلام مجتمعةً في عليّ(ع)، وقوّة الشّرك مجتمعة في عمرو بن عبد ودّ، ولذلك كان انتصار أحدهما انتصاراً لخطّه، وعندما انتصر عليّ(ع)، قال النبيّ(ص): "لضربة عليّ لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين".
ونحن نعرف لو أنّ عمرو بن عبد ودّ في ذلك الوقت تغلّب على عليّ(ع)، لاندفع جيش الأحزاب الذي جاء من أجل أن يصفّي الإسلام في المدينة، بحيث لا يُبقي منه شيئاً، ولذلك فإنّ هذه الضّربة التي تمثّل انتصار الإسلام على الشّرك، تعدل عبادة الثقلين، لأنّه لولاها، لما انطلق الثقلان في عبادتهما لله ربّ العالمين. ولذا فإنّ (ابن تيميّة) في اعتراضه على هذه الرّواية، لم يكن يفهم مغزاها.
فعلى الامة تتعض و تفهم كيف تدير امورها ...
اللهم احفظ الاسلام و اهله
اللهم احفظ العراق و شعبه
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha