الشيخ محمد الربيعي ||
جاء في الروايات أنّ ولادة أبي الفضل العبّاس(ع) كانت على المشهور، وذلك حسب بعض الكتب التاريخيّة، في المدينة المنوّرة، بتاريخ الرابع من شهر شعبان المبارك سنة ستّ وعشرين هجريّة، وعلى هذا، فإنَّ أبا الفضل العبّاس(ع) قمر بني هاشم، تلا في ولادته ولادة أخيه الإمام أبي عبد الله الحسين(ع) بيوم واحد، وفي الشَّهر نفسه، ومن حيث السّنين والأعوام، كان يصغره بثلاث وعشرين سنة، وكان ـ على ذلك ـ له من العمر حين استشهد في كربلاء أربعة وثلاثون عاماً .
وأمام هذه الشخصيّة، نجد كلّ المعاني الراقية الّتي تبرز أصالة الرساليّين في جهادهم ونصرتهم للحقّ والحقيقة، ووقوفهم إلى جانب المظلومين والمحرومين والمستضعفي. وحبّذا لو أخذنا من معين عطائها في نصرة الإسلام والحقّ، ومواجهة الفساد والمفسدين في السياسة والاجتماع والعقيدة والفكر
نلتقي بذكرى ولادة بطل كربلاء، بطل بني هاشم، العباس بن عليّ(ع)، هذا البطل الإسلامي الكبير الّذي لم يتجسّد إقدامه في موقعة كربلاء فحسب، بل في علمه ووعيه وثباته وروحانيّته أيضاً، وقد جاء عن الإمام جعفر الصّادق(ع) وهو يتحدّث عن العباس، أنّه قال: "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة - كان يتميّز ببصيرة تجعله ينفذ إلى الأمور وينفتح على القضايا كلّها، ليرتبط بالحقّ من خلالها. ونفاذ البصيرة، يوحي إلينا بما كان يتميّز به من علم ورأي وشموليّة في وعي الواقع كلّه - صلب الإيمان - كان إيمانه الإيمان الصّلب الذي لم تضعفه أو تزلزله كلّ إغراءات الدّنيا وإرهاباتها. وكيف لا يكون كذلك، وهو الّذي عاش مع أبيه عليّ(ع) في طفولته وأوّل شبابه، وعاش مع أخويه الحسنين(ع) كلّ أجواء العلم والروحانيّة والسّداد، وما يفتح عقول النّاس على الحقّ، وقلوبهم على المحبّة، وحياتهم على الخير.
كان العبّاس(ع) خلاصة عليّ والحسن والحسين(ع)، في معنى الوعي والروحانيّة، وفي حركة العلم وثبات الموقف وصلابة الإيمان ونفاذ البصيرة، كان ذلك كلّه، ولم يكن مجرّد مجاهد نذكره في جهاده - جاهد مع أبي عبد الله (ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً". ويقول الإمام زين العابدين(ع): "رحم الله العباس، فلقد آثر - من الإيثار - وأبلى وفدى أخاه بنفسه".
وعندما ندرس بعض اللّمعات ذات الدّلالة في بعض مواقفه في كربلاء، نرى أنّه كان في البداية صاحب لواء الحسين(ع)، ونحن نعرف أنّ اللّواء يُعطى للشخصيّة المميّزة في الثّبات والشّرف والشّجاعة. ويُقال في السيرة الكربلائيّة، إنّ الحسين(ع) جمع أصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء وخطبهم فقال: "أمّا بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، وهذا اللّيل قد غشيكم فاتخذوه جملاً - اركبوا ظلام الليل كما يركب الإنسان الجمل لينجو بنفسه - وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا اللّيل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يريدون غيري". فقام إليه العباس، وهو الّذي وجَّه مسار الحديث، فبدأهم فقال: "ولمَ نفعل ذلك؟ - إنّ الّذين يتخلّون عن قيادتهم هم الّذين لا تمثّل القيادة أيّ معنى في حياتهم من خلال معنى الرّسالة في عقولهم وشخصيّاتهم، إنهم الذين يحبّون الحياة أكثر مما يحبّون رسول الله وإمام الهدى والرّسالة - لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً"، لن نعيش في وقت لن تكون موجوداً فيه، نحن هنا من أجل أن نضحّي ونجاهد في سبيلك، لأنّ التّضحية والجهاد في سبيلك هما تضحية وجهاد في سبيل الله والإسلام. وتَتَابع أهل بيت الحسين(ع) وأصحابه بمثل هذا الكلام، وأشهدوا الله على أنهم يفدون الإمام الحسين(ع) بكلّ أنفسهم ومواقفهم.
ومن مواقفه، أنّه في بعض أيام عاشوراء، جاء الشّمر بن ذي الجوشن إلى قرب معسكر الإمام الحسين(ع)، ونادى: أين بنو أختنا، أين العبّاس وأخوته؟ فرفضوا أن يجيبوه، فقال لهم الحسين(ع): "أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم"، فقال له العباس: "ما تريد"؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فاخرجوا عن الحسين واذهبوا ولكم الأمان، فقال له العبّاس الذي يعيش الرسالة ويعرف ماذا يمثّل الشّمر وما تمثّل قيادته من الخيانة لله ولرسوله وللأمّة كلّها: "لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له"، وتكلّم أخوته بمثل كلامه ثم رجعوا.
وتنقل سيرته في كربلاء، أنّه حمل الماء إلى المخيَّم عدّة مرات، ولكنه في المرة الأخيرة، لم يستطع إيصال الماء، وسقط شهيداً في يوم عاشوراء، حيث كمن له شخص فقطع يمينه، ومن الطّبيعيّ عندما تقطع يمين الشّخص، وهي اليد الّتي يحمل فيها السيف، أن يصاب الإنسان بالضّعف وخيبة الأمل والمرارة، ولكن العباس كان يزداد عنفواناً وشموخاً، وقد صوّر هذا الموقف بعض الشّعراء بقوله:
والله إن قـطعتم يمـيني إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النبيّ الطّاهر الأمين
فأنا لا أحامي عن نفسي في هذا الموقف لأبكي عليها عندما تقطع يميني الّتي أحارب بها، ولكني أحامي عن ديني، فالحسين(ع) جاء من أجل الإصلاح في أمّة جدّه(ص)، ولتغيير الواقع الإسلاميّ الفاسد في قيادته وفي خطّ الانحراف الّذي سيطر عليه. وما نلاحظه، أنّ العبّاس لم يقل: "أحامي عن أخي"، ولم يتحدّث عن النّسب، وإنما تحدث عن القيادة وعن حماية الإمام الحسين(ع)، كونه إماماً صادق اليقين بالله وبرسوله وبالإسلام، وهو ابن رسول الله حقّاً، بالجسد والرّوح والموقف والرّسالة".
وفي أجواء ولادة أبي الفضل العبّاس(ع)، نتذكّر تلك الشخصيّة الّتي جسّدت عظمة الإسلام وشموخ الحقّ وسطوع نور الحقيقة، ونتذكّر أخلاقيّات الإسلام في الجهاد والانتصار للحقّ وأهله، وبذل المهج فداءً لإعلاء كلمة التّوحيد وخذلان الكفر والضّلال وأهلهما. فأين نحن اليوم من هذه الشّخصية في شجاعتها وجرأتها في قول الحقّ والذّود عنه أمام الطّغاة والظالمين؟! وأين نحن اليوم من هذه الشخصيّة في تقواها وإيمانها وإخلاصها وجهادها لتكريس روح التّوحيد وروح الدّين في المجتمع؟! وأين نحن من هذه الشخصيّة في تحمّل المسؤوليّة أمام الله تعالى ومراعاة حدوده في الدّنيا والآخرة ..
اللهم احفظ الاسلام واهله
اللهم احفظ العراق واهله
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha