حسن كريم الراصد ||
في فجر ذلك اليوم الصيفي من عام 1988 وعندما كنا على الساتر الثاني نتهيأ للدخول بدباباتنا لتحرير قرية الزبيدات شرق ميسان جاءت الأوامر بوجوب أرتداء قناع الوقاية عند الضياء الأول لبدء أستخدام السلاح الخاص ..
أنطلقت القذائف من فوهات المدافع تحمل الغازات الكيمياوية المركزة للطرف الآخر من الجبهة واستمرت الأصوات الخافتة للمدافع أقل من ساعة من الزمن والله وحده يعلم مدى الدمار والموت والحرق الذي أصاب الأيرانين في تلك المنطقة .. وبعد أن سطعت الشمس بضيائها تضيء ما حولنا قمنا بتشغيل الدبابات والتحرك عبر فتحات التلول لنصل الى منطقة الصفر فلم نجد ما يشير للحياة في تلك التلول .
توقفنا على بعد مسافة من حافة نهر دويريج ولم تكن هنالك مقاومة ولا سلاح مدمر ولا أثار لمعركة جرت هناك . جل ما وجدناه هو جثث لجنود متناثرة ولم تكن بالاعداد التي تصورناها بعد كثافة النيران المنطلقة من المدافع واستخدامها للاسلحة الكيمياوية .. نصبنا الخيام في تلك المنطقة الآمنة جدا فالجيش الأيراني بات على مسافة بعيدة بعد أن تخندق بجبال ديزفول وانسحب من المنطقة الملوثة .. أخذت قسطا من الراحة وخرجت وحدي لأذوب بين التلال وأهبط في الوديان وكأني أريد أن أغيب عن ذلك اليوم الذي كان فيه الموت سيد المشهد ..
سرت بعيدا عن وحدتي أحمل شعورا بالخيبة بعد أن تلاشى حلم سقوط الطاغية وتمكنت الماكنة الاميركية من دعم صدام بكل اشكال الدعم وبعد أن تبدل شكل المواجهة .. قطعت مسافة ليس بالقليلة فهبطت واديا لاجد نفسي واقفا فوق جسد مسجى وحيدا في الوادي شابكا اصابع يديه على صدره موليا وجهه شطر السماء .. كان شابا عشريني أسمر يلبس بزة عسكرية خاصة وبكامل قيافته من زمزمية ماء ممتلئة ومجرفة لم ينزعها من ظهره وجعبة عتاد خفيف بخلاف السلاح الشخصي الذي قد يكون سلبه منه الجنود .. وعلى رقبته كوفية كتلك الذي نراه اليوم على أكتافهم في الاربعينية .
جلست عنده ولم أشعر بأدنى خوف رغم أني كنت شابا لم أخبر الحياة بعد وكنت أحادثه وكأنه حي وكأنما أنتزع الرعب من قلبي تماما ولم أكن أعلم كيف ولماذا ؟ رأيت وجهه عن كثب وقلبت اطرافه وقد تحول لون جلده الى ازرق حبري بفعل غاز الخردل ولم تكن تنبعث منه أية رائحة تعفن ولم أسال نفسي حينها ولم انتبه لهذا الامر . قلت له : أي سيد ( وكنا نسمي الايرانيبن بالسادة ) ماذا فعل بك الكيمياوي وكيف أتيت الى هذا الوادي وماذا أستطيع أن أفعل بك غير دفنك في هذا الوادي الموحش ؟ ثم أنهيت حديثي وكفكفت دموعي ونظرت للسماء وقد تراجعت الشمس وحجبت ضياؤها التلال الا قليلا .. التفت لما في الوادي لعلي اجد ما يعينني لحفر الارض الصلدة العطشة فلم أجد غير دجاجة نفقت على قرب منه .. فعدت اليه وقلبته على جنبه واستخرجت المجرفة الصغيرة من غمدها وبدأت بالحفر ..
كنت أضرب الارض فترتد علي المجرفة دون أن تحدث خدشا فيها فاصابني الأحباط بعد أن شعرت بالأعياء والتعب وقلت في نفسي : ساعود له عند الصباح وأكون قد جلبت معي احد رفاقي الثقات وادوات جيدة للحفر . وفعلا ودعته بنظرة وقلت له : ساعود لك . وتواريت عنه وأنا اتسائل في سري : من سيضمن أن لم تنهشه وحوش البراري ليلا ؟ فاجبت بغضب : وماذا أفعل له ان كانت الارض لا يمكن شقها الا بشفل ؟
صعدت تلا آخر ونزلت بواد ثان وانا اراوغ عقلي لكي أتيه عن الجثة ولن أعود لها وبالحقيقة ان من المستحيل العودة لها فهي مجموعة تلال متشابهة لا يمكن التمييز بينها خاصة وأن الليل بدأ يرخي سدوله .. قطعت مسافة بين الوادي الذي فيه الجسد وبين خيام الكتيبة ودباباتها ولكني كنت أسير في الاتجاه الخاطئ او كنت أدور حول نفسي لاجدني واقفا فوق جسد السيد من جديد .. ركعت على ركبتي باكيا قائلا : ماذا استطيع أن أفعل لك سيدي ؟؟
. ثم رفعت طرفي للسماء مخاطبا : اي رب لماذا وضعتني في هذا الموقف ؟
وأجهشت بالبكاء كثيرا ورمقت وجه السيد وفتشت جيوبه لاجد هوية تعريف كتب فيها أسمه وسكنه وكذلك قرص هوية اضيف لها فصيلة دمه وادعية ورسائل مكتوبة بالفارسي بخط اليد .. ثم وبعد أن تملكتني الحيرة فيما أصنع وكاد الظلام ان يخيم على الوادي كفكفت دموعي ونظرت الى شعاع الشمس اعلى التل وهو يختفي رويدا رويدا لارى كومة تراب وقد حفرت بآلة قبل مدة ليست بالطويلة فركضت فرحا وصعدت التل لأجد حفرة هي عبارة عن خندق شقي منفرد وبجنبه كومة التراب التي رأيتها والمستخرجة منه وليس هنالك أفضل منها كقبر..
هبطت فرحا للجسد ولم أفكر أبدا بكيفية حمل جثة من عمق الوادي الى أعلى التل بل وضعت كوفيته بين أبطيه وسحبته فلم أشعر بأن للجسد وزنا يذكر . وصلت للحفرة بثوان وكأني حملت كتابا وليست جثة ..
وضعته بالحفرة دون لحد ووضعت معه بطاقة التعريف الورقية وكل حاجياته الشخصية وأهلت التراب الهش عليه ثم وضعت المجرفة قرب رأسه وكأنها شاهدة قبر وعلقت فيها قرص الهوية المعدني وفتحت الزمزمية وارقت الماء على التراب وقرأت الفاتحة ثم ودعته وشعرت أنه كان يشكرني لأني لم أتركه في العراء ولأني فهمت أنه لم يرغب بدفنه بالوادي فيكون عرضة لجرف المياه في الشتاء بل أن اعلى التل هو المكان اللائق لسيد مثله ..
عدت مسرعا اقطع فيافي الوديان دون أن ينتابني شعور بالخوف والقلق بل كنت وكأني مغيبا عن وعيي حتى وصلت لرفاقي استقبلوني بالسؤال والعتب واخبرت الثقات بما حدث فاوصوني أن أكتم الامر ولا أطريه على أحد خشية أن يصل مسامع الرفاق او الإستخبارات .. وبعد سنين علمت أني لم أكن بقواي المحسوسة وكلما تذكرت الامر تصيبني الدهشة من أني كنت أحادث جثة في وادي مظلم ولم أشعر بخوف ولم يصيبني هلع .. كنت بلا قلب فعلا .. فيا سيدي الجليل لا تنسى ما حدث عصر ذلك اليوم غدا عندما أكون بأمس الحاجة لأن يذكر لي أحد عمل صالح...
ـــــــ
https://telegram.me/buratha