وأخيرًا أناخت راحلة المنتَظِرة الفقيدة الحاجّة أم أحمد الطائي (رضوان الله عليها) لتلتقي محبوبها بعد مسيرةِ حياةٍ ملأتها بشكوى الفراق وأنين الاشتياق، منذ أكثر من عشرين سنة يومَ كانت في اليمن تعملُ في المختبر الطبّي نَذَرَتْ نفسها إليه، وبقيت لا تَكلُّ من طلب اللّقاء ولا تملُّ من الأمل بفوز القرب، كلُّ أعمالها منذ ذلك الوقت إلى أن فاضت روحها الطاهرة جعلتها وقفًا لمحبوبها، ومع أنّ آلامها المبرحة كانت تقضُّ مضجع السليم المعافى، غير أنّها ــ وهي بذلك الحال من اعتلالِ بدنها الذي أكله المرض ــ إلّا أنّها لم تفارق مناجاة حبيبها وسلواها، كانت تقول لي في رسائلها: أنا مشتاقةٌ إليه فادعُ لي ألّا يطول انتظاري لِلُقياه، فقد أتعبتني الحياة وأضناني المرض بَيْدَ أنَّ حبال الأمل لا زالت تشوّقني إليه، لا أعلم ما الذي سيحصل لي حين لُقياه، ولكن أحسَبُ أنّي أسعَدُ منتَظرةٍ في الوجود، وقد يُشاغلني الشيطان كي يمد خيوط اليأس إلى قلبي، هل سيقبلني يا ترى؟ هل هو راضٍ عني؟ ولكن سرعان ما أثوب إلى رشدي لأنّي أعلمُ هو صاحب القلب الذي احتضن كلّ الآلام والمعاناة من أجل أن يسعدني ووأمثالي، فكيف لا يقبلني؟ حاشاه محبوبي صاحب أرحم قلبٍ وأرأف إحساسٍ وأحنّ فؤادٍ، حتى إنّه أحنُّ من والديَّ عليَّ ... كانت دموعها تنسابُ سخيَّةً وهي تناجيه: إلى متى؟ وحتى متى أنتظرك يا سيّدي؟ أتُراك وجدتني لا أستحقُّ فزهدتَ بي؟ أم تراني لم أوفي حقك فما باليتَ بي؟ أواهٍ يا سيّدي إن طردتني أو جفوتني أو قليتني فهل لي طريقٌ آخر أذهبُ إليه؟ لا واللّه لم يدع لي شوقك أيَّ طريقٍ حتى لو كانت عافيتي فيه، أنا لا أُريدها يا سيّدي فمذ عرفتُكَ نسيتُ غيرك، فأعدني إلى ديار مودَّتك ولا تجعلني محرومةً من النّظرِ إلى وجهكَ.
لم أرَ كأُمِّ أحمدَ (وفاق جواد مهدي الطائي) مُنتَظِرة تعيش الانتظار المهدوي عشقًا لا ينضب شوقه، وعملاً لا يفتر عزمه، حتى في أشد حالات مرضها كانت تمدُّ يدها لتساهم في أيِّ أمرٍ يُذكِّر بمحبوبِها إمام الزمان عليه السلام، ومع أنّها قد أحاطها الأطبّاء بكثرة التحذير، ولكنّها في رمضان الذي مضى كانت شغوفة جدًّا وهي تعد السِّلال الرمضانية وتُقدِّمها هديةً باسم الإمام المنتظر (أرواحنا فداه)، وكانت عائلتها تلاحظ مدى التأثير الروحي الذي يملأ كيانها حينما تبادر لأيِّ عملٍ فيه قُربةً للإمام (صلوات الله عليه).
كتبت لي في أواخرِ أيّامها وهي تقول: أنا متأكّدة أنَّ إمامي الحاضر في قلوبنا معي بكل خطواتي، وما هذه البركات التي أنعم بها إلّا هي بركات دعائِهِ لي... الحياةُ لا تُعطي لنا كلَّ شيء، ولا نطمح بأن ننال كلَّ شيء... قبل تقريبا أكثر من عشر سنوات كنتُ أتساءل مع نفسي: هل الذي أعمله يصل إليك سيدي؟ أعمالي كلّها نيابة عنك، هل تَصِلُكَ؟ هل أنتَ راضٍ عنّي؟ واللّه وكأنَّ إمامي سمع سؤالي وفي نفس اللّيلة وكأنّ الإمام الحجة ينظر إليَّ وأنا في ملابس الصلاة وهو بملابس حربٍ ومسك بيديَّ وقال لي بالحرف الواحد: كلُّ ما تعمليه يصلني وأنا أعلم به... وبنظرةِ رضا وابتسامة...
وفي رسالةٍ أخرى منها قالت وهي تتحدث عن حالتها: الحمدُ للّه أنا في نعمةٍ كبيرةٍ واللّه قد لا أستحقها... واللّه أنا واثقةٌ من أنّ هذا الابتلاء ما هو إلا تمحيصٌ واختبارٌ لصبري! أنا لا يهمني إن شُفيتُ أو لا! الذي يهمّني أنّي أجتازُ هذا الابتلاء بالنجاح! واللّه شيخي وأخي عند أخذ (الخِزْعَة) الله وحده هو الأعلم بالألم وكأنه مَلاقِط تنهشُ بأحشائي... بكيتُ لا أنكر... لكني حاولتُ ألّا أضعُف، استنجدتُ بمولاي صاحب الزمان، ومولاي أمير المؤمنين (عليهما السلام) بالمدد وقلت: يا ربّ إن كان هذا يرضيك خذ مني... زد بآلامي حتى ترضى عني!
أمام مثل هذه الفقيدة كمْ تتصاغر نفوسنا؟ وكمْ تتضاءل تصوّراتنا بعد أن كنا نحسب أننا قدّمنا شيئًا في طريق الانتظار، وقد كتبت لي مرّة: أعتذرُ منكم لأنّني سبَّبتُ لكم الألم... والله أنتم جميعًا أحبّة... وحق الذي جمعنا بغير ميعاد، ووحَّدَ قلوبنا... أنا خادمةٌ لإماميَ الحُجّة منذ الصِّغَر أبحثُ عنه وأقرأ الكُتُبَ واستشعرُ وجوده في حياتي بكلّ تفاصيلها... نذرتُ أولادي خدمة له، وكلّ حياتي الآن اكتشفت أني كنت أمهّد لظهور إمامي الحبيب حتى وأنا في اليمن قبل ( 20 ) سنة قضّيت ( 7 ) سنوات كنت أستأنس بالحديث عن إمامي الغائب في كلّ مكانٍ وكلّ زمان...
لا أعرف يا (أم أحمد) كيف أُعبِّر عن مشاعري حين تلقَّيتُ رسالتك الأخيرة وأنت تقولين فيها مودعة: لا تخف عليَّ شيخي رغم ضعفي عند الألم لكن لا تخف عليّ أنا على تواصل مع اللّه وإمام زماني أشكو لهم ما أُعانيه وأنا على يقين تام أنّ فترة الابتلاء والاختبار أوشكت على النهاية... ثم أردفتِ تقولين: لا أُخفي عليكَ شيخنا وضعي تعبان! تعبتُ من العلاج! الأعراض الجانبية جدًّا متعبة.. الشكوى للّه بحيث استنزفتُ كلّ طاقتي أسألُ الله أن يرحم ضعفي وقلة حيلتي!!
لم تهدأ أحزاني عليكِ أيَّتُها الفقيدة الراحلة رغم يقيني بأنَّكِ نِلتِ درجةَ حسن العاقبة، وهنيئًا لكِ ما قدَّمتي، ولكن خفَّفَ عليَّ ما أخبرني رفيق دربك الدكتور أبا أحمد الجعيفري -حفظه الله- بأنَّكِ أوصيتيه ألّا يحزن عليكِ لأنَّكِ أرسلتِ زادكِ قبلكِ إلى الآخرة... نعم ما قدَّمتِ من زادٍ يا أُمّ أحمد... فلمثلِ هذا فليعمل العاملون!
هنيئا لكِ لُقياكِ مع محبوبكِ الأعظم،ويا لسعادتكِ وأنتِ ترفلينَ في رداءِ الحبوةِ والكرامةِ في فسطاطِهِ مع أجدادِهِ الطّاهرين (صلوات الله عليه وعليهم)، فعن المفضّل بن عمر قال: سمعتُ الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: ( من ماتَ منتظرًا لهذا الأمر كان كمن كان مع القائم في فسطاطه، لا بل كان كالضارب بين يدي رسول اللّه صلّى الله عليه وآلة بالسيف) راجع : الإمامة والتبصرة ص١٦٢.
جلال الدين علي الصغير
https://telegram.me/buratha