بعد أنْ أمضيتُ سنتين وشهرين تحت سياط التّحقيق في دائرة الأمن العامّة في بغداد من آخر اعتقالٍ لي ، وفي يوم من أيّام شهر تموز ، اللّاهب الحارق ، وفي بعض أحيانه قد تصل درجات الحرارة فيه إلى «50» درجة مئوية ، نادى الجّلادون بأسماءٍ البعض منّا ، وانا من ضمنهم ، وأمرونا بصعود سيارة قد كُتب عليها كما قيل : «مرطبات » ، وفي داخلها زنزانات حديدية صغيرة جدّاً جدّا ، تُملأ إلى نهايتها ، وفيها ثقب صغير جدّاً يكفي لتنفس بعوضةٍ.
رغم صغر سنّي ، ونحافة جسمي ، وهزالي من الجوع والتّعذيب ، كنت حينها صائماً وفرحا لذهابي إلى محكمة الموت ؛ لاني أجد الخلاص بالموت افضل مما انا فيه.
حينما دخلت هذه الزّنزانة شعرت أنّي أحتضر ، وضاق بي خناقها، دعوت الله أنْ يهوّن عليّ سكراتِ موتها و ضيقها ، لقد ضاق التنفس فيها حتّى ضغطت على قلبي حدّاً كادت أنفاسي تتقطّع ، شعرت أنّ ثمّة كابوساً وإغماءً ودواراً ، ثمّ «تقيّئتُ» ، فكنت – وأنا في غمرة النّزع هذه – أكرر دعاءً قد حفظته من اخوتي السّجناء : « يا مَنْ تحلّ به عُقد المكاره… ويا مَنْ يُلتمس منه المخرج إلى روح الفرج ، ذلّت لقدرتك الصّعابُ، وتسببت بلطفك الأسبابُ … أنت المدعوّ للمهمّات، وأنت المفزع في الملمّات، لا يندفعُ منها إلّا ما دفعتَ، ولا ينكشفُ منها إلّا ما كشفتَ، وقد نزل بي يا ربّ ما قد تكّأدني ثقلُه ، وألمّ بي ما قد بهظني حمله …».
وكانت سيّارة الموت هذه كلّما استدارت في جهة تعاود أنفاسي الانقطاع ، وأعود للاستفراغ من معدةٍ فارغةٍ، وبعد التي واللّتيا توقفت رحلتنا ، وعرفنا أنّنا نساق إلى محكمةِ الأمن العامّة في أبي غريب ، ويراد هنا أنْ تَصْدرَ أحكامٌ الموت بحقّنا .
هذه المحكمة – والأصحّ أنْ يقال عنها: «الموت »- وفي ظلّ حكومة الطّاغية المجرم صدام كانت مخيفةً جدّاً ؛ لأنّها لا تعني إلّا مفردةً واحدةً يكررها يوميا مسلم الجبوري : «حكمتْ محكمةُ أمن الثّورة على المجرم (فلان) بالإعدام شنقاً حتّى الموت» ، ولو تلطّف القاضي علينا وصار قانونيّاً: فيكون الحكم : «حكمتْ محكمةُ أمن الثّورة على المجرم (فلان) بالحبس المؤبّد».
ولا يوجد نفر واحد قد مَثُلَ أمام حاكم هذه المحكمة: «مسلم الجبوريّ» فأُطلق سراحه لعدم توفّر الأدلّة (مثلا) ، أو لأنّ الاعترفات قد أُنتزعت منه بالقسر وتحت السّياط ، مع أنّه يرى بأمّ عينيه أنّ الماثلين أمامه كلّهم جرحى ومعصوبوا العيون ، تعلو قسماتهم الخوف والرّعب ، وآثار التّنكيل بادية عليهم واضحة المعالم فيهم.
-المدّعي العامّ – طالب المحكمة بإنزال أشدّ العقوبات فينا جميعاً ، وفق المادّة (156) ، فحكم القاضي «مسلم الجبوريّ» على الكُلّ بالإعدام ، إلّا إياي ، لصغر سنّي فصنّفوني ضمن «الأحداث» ، فحكموا عليّ بـ «الحبس المؤبّد» ، ثمّ عدنا بعجالة لسيّارة الموت، وأنزلوني في سجن أبي غريب ، وكان الجلادون يسخرون منّي حينما نادوا السّائق : «عندك واحد نازل» ، وأرسلوا رفاقي إلى قسم الإعدام ونُفّذ فيهم بعد حين.
من يراجع أحكام ص/دام يجد أنّ في غالبها الحكم بالإعدام على كلّ الشّرفاء من الشّعب العراقيّ ، وحتى في السجن فهو موت بطئ، هنا بدأت معي رحلةٌ جديدةٌ في سجن أبي غريب ، دورة حياة، وعذابات ومصطلحات جديدة : «الأقسام ، السّجن ، السّجن المغلق ، القزان ، الموت البطئ ، التّنكيل ، المجهول ، الجوع الشّديد لحدّ تصبح لقمة الخبز أمنيةً بطرٍ يتمناها السجين ، والعطش هو الحالة الغالبة ، والحرّ القاتل ، والبرد في أيّأم الشّتاء ، والسّل الرّئوي قد تفشّى فينا ، من كثرة أعدادنا وضيق التّنفس وتلوث المكان ، فالهواء هنا بالمثاقيل .
وتكررت على مسامعنا الأسماء المجرمة : «فلاح عاكولة»، ونقيب «غالب» ، مسؤول قاطع الأعدام.
انها رحلة الموت
https://telegram.me/buratha