المقالات

شلون تموت وانته من اهل العمارة

1856 13:26:00 2008-07-05

( بقلم : فارس حامد عبد الكريم العجرش )

العمارة مدينة جميلة .. تمتد وتنحني مع نهر دجلة لتذوب معه في النهاية صانعة منه اهواراً وقصباً وطيناً ممزوجين بطيبة اهلها ورائحة العنبر. العمارة مدينة المثقفين ، ومن معطفها المائي وطينها الحر خرج ادباء وشعراء وفنانين كبار دخلوا العاصمة وهم يحملون عبق صباحها الندي وغيم ومطر جنوبي ولهجة الجا ، جا وين اهلنه... فتحولت الى اغاني وقصائد والحان بنكهة الجنوب ، هزت روح ابن العاصمة واشواقه البغدادية ونافست ( مقاماته ) التي تصعب منافستها.

عندما نقل والـدي القاضـي من مدينتنا الحلة الى العمارة عام 1973 ، قالوا قد جئت موسكو الصغرى بدون جواز سفر ، كانت لغتها شعراً وحركاتها فناً ومضائفها كتب وجرائد ودواوين وسـمك وخبـز طابـك ، وبلهجة الجـا كان الحب الميساني يغلف ايامها ويعطر اجوائها....بينما كان الجدل الديالكتيكي الممزوج بالغناء والمواويل بطور المحمداوي وطور الصبّيّ هو ما يميز امسياتها على نهر دجلة. والعمارة مدينة العشق والجمال ( يلي تريد الحِسن اخذه منهل العمارة ) .........و ( اسمر وين مربه ... شارب مي عمارة ) .

وبين ازقتها ودروبها، الجِديدة والسراي وعكد التوراة وسوق التربية، طاردنا العشق الاول ولمع بريقه في عيوننا .وكأي مدينة عراقية نالت من ظلم الطاغية الشيء الكثير ، وكان شبابها يختفون تدريجياً في حروب و اعتقالات واغتيالات، حتى بات من المحرج ان تسأل عن صديق لئلا يأتيك الجواب بما لا تتمنى فتؤثر الصمت على السؤال.وفي العمارة محلة اسمها عواشة ، كانت محلة البرجوازية كما يحلو لشباب العمارة ان يصفوها ، لانها محلة كبار الموظفين والتجار والإقطاعيين السابقين.

في ليل ميسان الندي وفي البساتين المقابلة لعواشة كنت تسمع كل ليلة صوتاً حزيناً شجياً يعبر النهر ، يغني الآه والانين والعشق العمارتلي الخالد ، كنا في موعد دائم معه ، الا ان هذا الصوت اختفى بعد حرب الثمان سنوات ، كما اختفت اصوات كثير من الشعراء والادباء .كان صديقي الشاعر والفنان والاديب عبد الله حازم يمزح مع صاحب مقهى بيروت العجوز قائلاً:ـ زاير ... شلون تفوت الطيارة المخطوفة فوك الكهوة مالتك وما تبلغ عنه.كان الرجل العجوز يرد بجدية دون ان يدرك المزاح:ـ جا عمي تريد تبلانه بلوه ... جا شني .. عمي اني ما اشوف...كان محقاً ، ففي ذلك الزمن الاغبر كانت مجرد مزحة بريئة قد تقود الى حبل المشنقة.

كان عامل الميكانيك صالح الملقب بـ (صالح الطويل) ، يتمنى ان يجالس المثقفين ، فكان يتأبط (طريق الشعب) ويأتي ليشاركهم جلساتهم، والرجل انسان بسيط لا علاقة له لا بالثقافة ولا بالمثقفين ، الا انه وفي كل حملة تنال من (المثقفين) ، كان صالح الطويل اول المعتقلين ، وبعد ان فتح أزلام الأمن دروباً وأزقة في وجهه ، قرر ان يتنازل عن تأبط ( طريق الشعب) وتأبط (الثورة) وفي يوم ميساني قائظ وهو ينتظر الباص ، وضع ( الثورة ) على الرصيف وجلس عليها ، فاعتقل بتهمة الجلوس على صورة ( الريس ) فحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً ، الا اننا لم نراه بعد ذلك. لقد اختفى المثقف المحبوب صالح الطويل من حياتنا .

وبعد انتهاء العمارة من انتفاضتها الشعبانية، كما روى لي طبيب صديق ، وبينما كان الناس يتجولون في اسواقها آمنين ، وبدون سابق انذار ، قصفت العمارة بالمدفعية الثقيلة بلا رحمة ، فسقطت الاجساد الطاهرة على الارض الطاهرة ، في الاسواق والشوارع ، ومنع اهل العمارة من رفع اجساد ابنائهم ، وبقيت اياماً وايام ، كان الاب منهم يقف على بعد امتار من جسد ابنه الممزق ، يبكي دون ان يستطيع ان يفعل شيئاً ، وحرس المقبور يدفعونهم بالعصي ، كان الابن الشهيد يرتدي بنطال كابوي تتدلى منه مدالية غطاها الدم ولايتجاوز عمره الخمسة عشراً ربيعاً.... لك الله ياابن العمارة . وين يروح من كان الله خصمه.

وعندما هدم الطاغية قصر فتنة ومحمد العريبي وحكاياته القديمة اضحى شارعك الجميل كفم في وجه اثرم .... فما اتعس الطاغية حينما يسعى لهدم التاريخ، ولكن لا تحزني ابداً يعماره ، فالتاريخ لا يمحى رغم انف الطغاة وكل شيء يمكن ان يعود لمكانه بسواعد العمارتلي الاسمر وهلاهل العمارتلية الحلوة.

واحفاد جلجامش العمارتلي ،كما يؤكد بعضهم، الذي اقتحم اهوارها باحثاً عن الخلود... لهم اليوم نهضة اسموها بشائر السلام ، نأملها كذلك ونأمل ان لا تراق فيها قطرة دم عمارتلية واحدة كي لا يدوم الحزن ولا يبقى مجال للقول ( يعمارة ابنج بايع روحه )، الاهزوجة التي تردد كلما كان يراد تحريض ابن العمارة على القتال في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل. فروح ابن العمارة اليوم عزيزة بعد ان زال رمز البغي والعدوان والكذب المنقطع النظير.يا ابن الكرم والعشق السرمدي والطيبة الجنوبية.. أيها المناضل منذ زمن كلكامش... يا صانع الحرف والفخار.. يا سومري .. يا صانع الحضارات العظيمة بلا منازع .. ( شلون تموت وانته منهل العمارة ) .

وليش تموت وتفرح أعداءك.. نعم لا تليق بك الا الحياة فأبعثها في دروب العمارة واهوارها واطوارها المحمداوية ، وساهم في ترتيب حروف وأبجديات العراق الجديد ، العراق الذي طالما تمنيته وحلمت به، واكمل نهضتك بسلام وادعونا لزيارتك فقد هزنا الشوق للأيام الخوالي.............................................................................فارس حامد عبد الكريم العجرش Faris Hamid Abdul Kareem AL Ajrish ماجستير في القانون Master In Law باحث في فلسفة القانونوالثقافة القانونية العامةhttp://farisalajrish.maktoobblog.com/

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
dr abdullah sabah
2008-07-08
مقال اكثر من رائع ونتمنى ان نقرء مزيد من الميسانيات واتفق مع الاخت زينب الجابري لقد كانت ماساة عندما زرت اقاربي ووجدته يسكن ببيت اقرب مايكون الى كهف، فالعمارة مدينة متعبة جدا جدا وعلينا تسيلط الضوء عليها للننتشلها من الظلم الذي وقع ابان حكم اللص الطائفي،واراى ان ننفق عليها من الاموال المركونة في الحسابات العراقية قبل ان ياتي مجرم ليسرقها او يرميها في مسلات وهمية كالحروب او الدفاع عن حياض الوطن ومن هذه الالعاب السياسية ان الاون لتعمير العمارة،المدينة الغنية بالخير والموارد وفقيرة بوسائل العيش.
حسام
2008-07-07
آخ اروحلج فدوة يا العمارة :-(
dr abdullah sabah
2008-07-07
مقال اكثر من رائع ونتمنى ان نقرء مزيد من الميسانيات واتفق مع الاخت زينب الجابري لقد كانت ماساة عندما زرت اقاربي ووجدته يسكن ببيت اقرب مايكون الى كهف، فالعمارة مدينة متعبة جدا جدا وعلينا تسيلط الضوء عليها للننتشلها من الظلم الذي وقع ابان حكم اللص الطائفي،واراى ان ننفق عليها من الاموال المركونة في الحسابات العراقية قبل ان ياتي مجرم ليسرقها او يرميها في مسلات وهمية كالحروب او الدفاع عن حياض الوطن ومن هذه الالعاب السياسية ان الاون لتعمير العمارة،المدينة الغنية بالخير والموارد وفقيرة بوسائل العيش.
زينب الجابري
2008-07-06
مع خالص الاحترام للاخ كاتب المقال اود ان اقول ان شعوباً كثيره تمتلك موروثاً ثقافياً وحضاريا وشعراً وفنون ولكن امتزج لديها كل هذا بمعطيات الحضاره الحديثه لتوفير قدر من العيش الانساني لوارث الحضاره,ونحن لا زلنا نفتخر ببيوت القصب التي يعيش اهلها وسط مسطحات مائيه تنفع كمحميات طبيعيه اوماشابه ولكنها لاتصلح لسكن البشر الا من غضب الله عليهم,اناس متعبون بيوتهم تفتقر للحمام الذي يفترض وجوده في بيوت البشر لا يرتاحون ليل ولا نهار هم واطفالهم من متاعب البيئه الصعبه وامراضها.وللانصاف يشاركهم هذه المعاناة اعداد كبيره من ابناء شعبنا ممن يعيشون في مناطق عشوائيه وبيوت الطين التي انقرضت.التركه ثقيله عقود طويله من الاهمال مااود قوله هو دعوه للالتفات لشعبنا وياريت لو نفكر بمشاريع لتوفير مساكن لهذه الناس التي عانت طويلاً .من المعيب ان يسكن شعبنا الاكواخ ويفتقر للماء والكهرباء.ومليارات العراق تكدس في ارصده اللصوص والقتله .اتمنى ان تعوض حكومتنا المنتخبه صبر المظلومين خيراً.وشكراً
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك