رحلَ الكوكبُ الدريُّ عن البصرة والعراق لكنَّ جاذبيتـَهُ لا تزولُ ولا تزالُ أفئدةُ الصّـلحاءِِ من البدريّـينَ وغـير البدريين تهوي إليه تـُرخِصُ الدماءَ لإكمال مَسيرتهِ وإدراكِ ثأرهِ .. ( الكاتب : واثق البدران )
هنا شــلامجة .. بوابة المدينة التي رغم اقترانها بالمثل المشهور (بعد خراب البصرة) إلا أنها ظلت عـصيةَ على الموت فـكـمّـاشـة ذلك الخرابِ وعِـبْـرَ التأريخ - رغم ضراوةِ فـكـّيـْْها - لم تقلعْ جذرَ النخل الضارب في بطن الأرض البصرية ببركاتِ علي وحماس الأحنف ومسحاة إبن حنيف ...شلامجة .. بوابة مدينةِ الشعر والنخيل .. بوابة المدينة التي تفـتـحُ للمطر نوافـذ شـناشـيلها.. وتـسـفُّ من خوص سـعـفِ نخيلها الـشـهرزادي ورقـاً مُعـَطراً برائحةِ الطـّـلع يـقـص لركاب الـبلـم العشاري تأريخ البصرة .
مجذافُ الـبـلاّم يصنعُ مع موج الـشـط ِّ مَـدرجَ طيرانٍ مائيٍّ للنورس لـيُحَـلقَ غيرَ بعيدٍ صَـوْبَ شـلامجة ...
هنا ... وذاتَ صباح لم يُحرقِِ الصيفُ كـلَّ طقوسهِ ... كـتبتْ شلامجة واحدةً من أجمل معـلقاتِ الشعر البـصْـريِّ .. وصاغتْ من أنفس حَـبّاتهِ عقداً فريداً طـرَّزَ بهاءَ ذلك الصباح العالق بذاكرةِ البصريين كــتعـلقهم بتراب مدينتهم .. ....
تفاصيلُ هذا المشهد البهيِّ الذي يجفـلُ لوصفهِ الحرفُ وينعَـقِـدُ لبيانهِ اللسانُ ... لا يرويهِ إلا مَنْ حَـضـرَ هنا وظـلـَّـلَ اللهُ عليه الغـمامَ الذي وَجَـدتْ فيه الشمسُ ضالتها لتحتجبَ خلفه خجلاً من إطلالة كوكب دري شق من جهة المشرق غبارَ شلامجة.. فكبـَّرتْ مآذنُ البصرة تعـلنُ عَـن صلاةِ الفجر العراقيِّ الجديد ..
ويا لها من صلاة فما إنْ تراصّتْ صفوفُ المُـقيمينَ لها والذين قدموا هنا زرافاتٍ ووحداناً من كل حَـدْبٍ وصَـوْب حتى تـفجَّـرتْ في لحظة عشق فريدةٍ مَـشاعـرُ الحُبِّ المُتبادَل بين المأمومين وإمامِهِـم الغائبِ العائدِ بعد سنين ٍ عجافٍ من الترقـُّب والإنتـظـار لمثل هذا الصباح المشرق الذي أحيا الأملَ في النفوس ...
وقبل أنْ يَـصِـلَ الكوكبُ الدريُّ إلى مَـركز مَدارهِ في قلبِ البصرة أبَتِِ البدورُ التوابعُ لهُ في بـوّابَـةِ شـلامجة الشامخة أبتْ إلا أنْ تـُتِـمَّ مراسيمَ استقباله فأسْـمَعَـتِ الدنيا بجهاتها الأربعةِ عَـزفاً مُنفرداً على القانون البصري ..
وحْـدَها شلامجة - وطبقاً لهذا القانون - فرضتْ أحكامَها العرفية معـلنة حالة طوارئ تحددُ مسارَ بحور الشعـر فـعـطـلَ الخليلُ بنُ احمد الـكـيلَ بموازينه... ففي شلامجة اعتدل الميزان ...هنا كادَ نبضُ العَـروض يتوقفُ إجلالاً لِـعَـراضةٍ تـبارى فيها مِهوالُ كـل عشيرة مع نظرائه ليعبروا عبر أهازيجهم عن فرحهم بمقدم هذا الكوكب الدري واثبتوا فعلاً أنَّ طويلَ الخليل ومديدَهُ قصيرٌ في شـلامجة وأنَّ رمَـلهُ المسبوكَ انسكبَ مغموراً في ذرّاتِ رمْـلِها المُـثـار ... وحين انـتـفض هذا الرمل طرباً ... إنتقض غـزْلُ القصائد المنسوجة على مِنـوال (رجَـز) الخليل الهادر في ساحاتِ الوغى وأرتِـجَ لِـسانـُها البليغُ حين أفصحتْ ألسنةُ البصريّـيـنَ ناطقة بأهزوجةٍ دافـقةٍ كـأنشودةِ المطر البدرية التي تشرئبُّ لِـسحر بَيانِها أعناقُ أساطينِ النحو البصريّين ... تلك الأهـزوجة تختصرُ كـلَّ تفاصيل هذا المشهدِ الخالدِ ...( البصره ابْـجَيْـتـكْ فرحانه)
مفردة ُ(جَـيْـتـكْ ) الدارجة تقابلها بفصحى الخليل وسيبويه (مَجـيـئـُك) وضميرُ الكاف المتصل بهما يعود على الغائب العائد .. وما بين (جَـيْـتـك) و(مجيئك) كما بين (عروض) الشعر و(عراضة ) العشائر يتوحَّـدُ فصلُ الخطاب البصري منضوياً تحت راية ( الـمخاطـَـب) الغائب الذي عاد بضميره الحي وهو يشق الطريق بين مئات الألوف من مستقبليه تستدر أهازيجهم المعبرة دموع عينيه فظل يصيخ السمع لأهزوجتهم التي وصفها بالإلهية ورددها معهم باكياً وكيف لا يبكي وهو العارف بعائدية ضمير الكاف في هذا الشعار الهادر (( وينه الحاربك وينه )) فكانت مدامع عينيه إختصاراً لتأريخ طويل وعهد معهود مع الحسين عليه السلام حرص أن يعلنه على الملأ في حرم السيدة المعصومة عليها السلام بقم المقدسة ..
كما حرصَ العائدُ العزيز أن يشيرَ إلى أنَّ دخولَهُ من البصرة دونَ غيرها من المُدن العراقيةِ لم يكنْ اعتباطياً بلْ كانَ خاضِعاً لحساباتٍ وتقديراتٍ محدَّدة .. ولنا أنْ نسألَ : لماذا يبدأ كوكـبـُـنا الدريُّ مَـشـْـرقـهُ من جهةِ البصرة؟
مفتاحُ الحلِّ لدى العارفينَ بـأسفار ( صدرِ المتألهين) فهُمْ خيرُ من يـفـُك شفرة هذا السؤال .. وهُمُ الأعلمُ بمصاديق حديث الراياتِ السودِ القادمةِ من الشرق ... ولعـل أمـرَ استقبالها ولو حبواً على الثلج يجعلُ بوصلة الباحثينَ عن الإجابةِ تشيرُ إلى الإتجاه الصحيح والمنسجم مع حديث ( قتل نفسٍ زكيةٍ في ظهر الكوفة مع سبعينَ من الصلحاء ) وتبقى معلقاتُ المراثي وبكائياتُ المنابر يافطةً معلقة على جدار الضريح الحيدري المقدس يرمقها الصلحاء من زوراه بنظرات الأسى والحزن على مغيب الكوكب الدري يحدوهم الأملُ الكبير بظهور إمام العصر والزمان الذي وضَعَ بعنايتهِ الفائقة هذا الكوكبَ الراحلَ على مَدارهِ من البصرة للنجف ...
رحلَ الكوكبُ الدريُّ عن البصرة والعراق لكنَّ جاذبيتـَهُ لا تزولُ ولا تزالُ أفئدةُ الصّـلحاءِِ من البدريّـينَ وغـير البدريين تهوي إليه تـُرخِصُ الدماءَ لإكمال مَسيرتهِ وإدراكِ ثأرهِ ..ولا عَجبَ أن يكونَ شهيدُ البصرة الغيور أبو كرار الهاشمي أوَّلَ الطالبين بهذا الثأر الإلهي فلم يكنْ ثمة انتظار وتصبر وما هي إلا مسافة الطريق الواصلِ بين البصرة والنجف حتى كتبَ بدمِهِ الطاهر سطورَ وفاءِ البصريين للفقيد الكبير ..
https://telegram.me/buratha