المقالات

الأبعاد الكونية لدور العقيلة في واقعة الطف الخالدة

2287 15:09:00 2009-02-12

( بقلم : طالب عباس الظاهر )

قد بدأ تاريخ الحضارة البشرية على الأرض منذ الوهلة الأولى لبدء الصراع في ذات النوع الإنساني ما بين ماضيه الهلامي في عالم الأرواح ما قبل النشأة الأولى ، وما بين حاضره المتصلب في عالم الوجود بالمادة المتهيكلة ، وقسوة الحدود ومحدودة الكينونة الضيقة في حدود الأجسام والأجساد ، بيد ان أشواق الروح المستمرة ، وتوقها لحلمية عالمها الغابر، وملائكية طفولتها ، وشدة حنينها للعود لماضي الحرية المطلقة،الذي انفصلت عنه ساعة تحملت الأمانة العظمى التي أشفقت من حملها حتى الجبال ، بقبول الرهان الصعب ؛ ما فتفيء يضغط على الميول السفلية (الترابية) في النفس الأمارة بالسوء ويسحبها ، في محاولة للارتقاء بها قدر الإمكان صوب ذرى المتساميات ، وما تنفك السفلية هي الأخرى؛ تجرجره بحبائلها وتقيد انطلاقة (الروحية) نحو الانحطاط ، في محاول تصب في ذات المسعى ، وتؤدي ذات الدور ولكن من جهات مقابلة، لمنعها من بلوغ أزلية حريتها المطلقة ، ومن الصعود صوب اللانهاية ، المفتقدة منذ أول لحظات الخروج / الدخول في كينونة الممكن بشقيه المعنوي والمادي ، المحدود الأبعاد مهما اتسعت دوائره ، فضلا عن الانسياق خلف إغراءات المادة ، بيد ان منافذ خيار الارتقاء المشرعة أبداً أمام الطامحين لبلوغ الغايات السامية ؛ سيظل هو الاختيار النبيل، بالاختبار الأصعب بالنسبة للخلق أجمعين بالانسلاخ ، من اجل إثبات الأحقية في الخلافة على الأرض من عدمها، ودحض ما لم تحيط بها الملائكة علما" (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) صدق الله العلي العظيم.

فمن ذا الذي يقدر على الإتيان بمصداق المهمة الصعبة .. وربما المستحيلة ، سوى صفوة الصفوة من خلق الله الربانيين ، والخيرة من عباده المخلصين ؟ ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ لكي يكون الله جل جلاله حجة عليهم أهل البيت سلام الله وصلواته عليهم أجمعين ؛ ليكونوا بدورهم حجته على العالمين، وحلقة الوصل مابين الأرضي من جهة ، والسماوي من الجهة الأكثر أهمية بالمنظور الكوني، كصورة حية من صور الارتقاء بأسمى تجلياته، وصوت الحقيقة الأزلية ،تأكيدا لمثالية القيم ، وسمو تعاليمها الإلهية .

.لذا فإن درجة السمو في الإنسان تعني بوجه من الوجوه ، إن لم تكن أهمها على الإطلاق ؛ هي في حقيقتها ،في المدى الذي تبلغه قدرته على الانسلاخ من الواقع المادي المتصلب ، كسراً لحدود الممكن، والمحاولة من اجل نفض الميول الأرضية وأدرانها عن جسده ، للتسامي صعدا صوب المكنونات الخالدة في الذات الإنسانية ، وبطبيعة الحال سيكون العكس بالعكس صحيح أيضاً ، في صراع الأضداد القائم منذ البدء ولسوف يستمر لحين قيام الساعة، فمن ذا الذي بوضاعة أبن ملجم مثلا ليقتل أمير المؤمنين ! ومن مثل يزيد ، وعبيد الله بن زياد ، والشمر لكي يرشحهم انحدارهم ؛ فيقفوا على الطرف الآخر المناهض لعظمة الحسين عليه السلام وأصحابه ، ومن ..ومن....!!ولكن هل تراه تقليديا موقف سيدتنا الحوراء زينب الكبرى بنت علي المرتضى سلام الله عليها، ومعدنه معدن أي موقف آخر في القيمة المعنوية لتوجهه؟ وبعد كل تلك التفاصيل المريرة التي لم يشهد تاريخ البشرية لها نظير، بفواجع الواقعة الرهيبة وقد بكتها دماً عيون السماء ؛وجميع الخلائق وحتى الحيتان في البحر.. بل وبكتها عيون السماء دما .

أقول أتراه تقليدياً؛ ان تتوجه الى الله بدعائها في تلك اللحظات العصيبة ، وهي قرب أشلاء ممزقة لجسد أخيها الإمام أبي عبد الله الحسين، المضرج بالدماء ، وهو نهب الأسنة وحد السيوف ورضخ الحجارة ، فضلا عن رض سنانك خيول بني أمية ،في محاولة لمحو الأثر وطمس الجريمة ! فتقدمه بين يدي الله جل جلاله، قائلة: "اللهم تقبل منا هذا القربان"وأي قربان مهشم الأوصال ومقطعها في سبيل الله ؟ وهل جاءت صرخة الحق الزينبية المدوية تلك ، التي مازال صداها رغم السنين الألف ونيف ، يتردد في الآفاق؛ مجرد صرخة منفعلة كرد فعل حزين من قبل امرأة ثكلى فجعت بجميع أبنائها وإخوتها وأهل بيتها النبوي،وهي تستشرف آفاق الزمن ومكنون الأسرار بمثل تلك الصرخة/النبوءة وهي تتفاعل في متون التاريخ وانسحابها على أرضية الحاضر، محركة سكون الخنوع في دواخل الذات الإنسانية، وهي تواجه واحداً من أغلظ عتاة الإنس وأبناء الجان، وأكبر فراعنة العصور، المسودين بفعالهم وجه التاريخ البشري ، منذ انبثاق الشر بطعنة خنجر قابيل القاتل الأول لأخاه هابيل ، أول قتيل على الأرض بطعنته البكر في خاصرة الزمان، ليضحى قابيل رمزا حياً للجريمة الأولى، فتوبخه مجبرة، وهي العالمة غير المعلمة وهو الداعر الفاجر الماجن ، ومن خلفه تخاطب المسيرة الإنسانية برمتها بالقول : (ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لاستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، واستكثر توبيخك ، ولكن العيون عبرى ، والصدور حرى ).

فتطلق للزمن بنبوءتها الهائلة قائلة: ( فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا) أو (ولينصبن على قبر أبي عبد الله علم ، وليجتهدن أئمة الضلالة على طمسه فلا يزداد إلا علوا وانتشارا) بيقين تتزحزح رواسي الجبال ولا يتزحزح، وفي اشد لحظات المحنة وأكثرها تشابكا، وهي تقف مابين فاجعتين تكالبتا على قلبها المكلوم ؛أولاهما فاجعة الفقد لجميع أهلها وذويها ، وقد تلقتهم بصبرها مجزرين كالأضاحي الواحد تلو الآخر، وهم يقضون قتلا ، وتتوزع أجسادهم الطاهرة، أسنة السيوف والرماح والسهام، وترض إضلاعهم سنابك الخيول ، ومن ثم تركهم مجرد أشلاء ممزقة على رمضاء كربلاء دون غطاء ، وبين ثانيهما وهي عظمة مسؤوليتها القادمة في استكمال ما ابتدأه الحسين بسفك دمه الطاهر على ارض كربلاء وتعميدها به من اجل قيامه ، حينما لم يجد طريقا آخر يفضي الى ذات النتيجة سوى التضحية بكل ما يملك ، ومن ثم ما ترتب عليها من مهمة جديدة ،وهي رعايتها لشؤون سبايا البيت النبوي الشريف وهي مصفدة بالحديد ، وتكفلها النساء والأطفال في رحلة القافلة المريرة ، وتفقد شؤونها وشجونها من كربلاء الى الشام بتكليف من أخيها وإمامها الحسين، آخذا العهد منها أن تستكمل حلقات نهضته والسير في الامتدادات الإلهية المرسومة بمشيئة السماء لنهضته المباركة ، فيضيء لها الأبعاد الكونية لدورها المحوري في واقعة ألطف ، إتماما للأهداف الإلهية بالمنظور البعيد للنهضة الحسينية المباركة،التي ما ضحى بما ضحى به إلا من اجل قيامها ، ليمد لأهدافها العليا على مساحة الزمن لحين أزوف أوان اللحظة الحاسمة بخروج الحجة المنتظر(عج) ليملأها عدلا وقسطا بعدما ملئت ظلما وجورا ؛ ولئلا تذهب سدى أية قطرة دم طهور أريقت ظلما على ثرى كربلاء ، أو دمعة حزن نزلت ، أو حتى زفرة الم أطلقت حسرة على ما آلت أليه أحوال الإسلام على يد بني أمية وأتباعهم من عبيد المادة وطلاب الحياة .

فماذا قال الحسين بالتحديد للحوراء زينب ساعتها ، أي في لحظات الوداع ، في ليلة العاشر من محرم الحرام وهم مقبلون على تلك الأحداث الجسيمة بالمصاب الجلل؟ وكيف تراها تلقت ما سوف يجري من فواجع عليها ، وما سوف يراق من دماء طاهرة من أبناء البيت العلوي ؟ ومن دماء الأصحاب ثمالة الخير في الأرض ، وما سوف تواجهه بنات رسول الله حين سوقهن أسارى إلى الشام في رحلة سبيهن ؟ وكيف نزل نبأ مقتله الفاجع بالذات على قلبها سلام الله عليها؟

كل تلك الأسئلة وغيرها الكثير مازال طي الكتمان، ولم يزاح الستار عنه ، ولو قدر له أن يسفر عن وجهه لبرز ما لا يمكن تخيله حتى بالأوهام ، وإن الله وحده العالم بخفايا وأسرار تلك السويعات العصيبة من تاريخ المسيرة البشرية على الأرض ، ومدى ثقلها على قلب سيدتنا ومولاتنا أم المصائب زينب.. فيوم عاشوراء ليس كأي يوم آخر، كذا أرض كربلاء ليست كأي ارض أخرى ؛ لذا فأن ما ظهر من أحداث الواقعة لا يمثل سوى جزء من العشرة فقط ، وإن ما خفي لأجل وأعظم .

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاكثر مشاهدة في (المقالات)
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك