المقالات

أبو ذر الغفاري يهتف فينا أتتكم القطار بحمل النار

1589 14:41:00 2009-03-18

( بقلم : حسن الهاشمي )

لا تزال الحركة التصحيحية التي ابتدأها الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري تبحث عن روادها في زمن نحن أحوج ما نكون فيه من تبني هذا الفكر النير الذي يضفي على العالم الممتزج بالمادة والماديات مسحة الفضيلة والنزاهة والقداسة، وهي مدعاة لتصحيح المسيرة ليس في زمن الإنحراف الأموي فحسب، بل نحن في أجواء التحول الديمقراطي طالما بحاجة إلى مواقف رائدة تقوم باصلاح ما فسد من أمور المسلمين، محاربة الفساد المالي والإداري والقضاء على المفسدين وتعريتهم وتبديد الثروة التي هي بحوزتهم على المحتاجين والمعوزين، وعدم مهادنة الظالمين على ظلمهم وفسادهم، وتبليغ الأحكام الإلهية والمذهب الحق في شتى أصقاع العالم بلا خوف أو وجل، هذه الأمور وغيرها الكثير يتعلمها المرء عندما يتصفح التاريخ ويقرأ شذرات من حياة ذلك الصحابي الذي قال الرسول الأعظم بشأنه (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر) فهي شهادة فخر واعتزاز يعزز من مكانته ويكرس ما قاله وفعله في نفوس المسلمين والأحرار في كل زمان ومكان.

أبو ذر الغفاري وهو جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن صغير بن غفار، كان من القلة التي توحّد الله عزّ وجلّ قبل البعثة، وأكثر من هذا كان يصلي قبلها، رجع بعد إسلامه إلى قومه فدعاهم للإسلام فاستجابوا وأسلموا، كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب (الإصابة، ج4، ص63)، نزل فيه آي من القرآن الكريم وخصّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بأحاديث كثيرة، امتنع عن بيعة أبي بكر، وخطب في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) محتجاً على القوم، لازم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وتخرّج عليه، يعتبر من علماء الصحابة وأهل الفتيا منهم، كان شديد المعارضة لعثمان، فصيره إلى الشام، فنشر مبدأ أهل البيت فيها، فشكاه معاوية، فأرجعه إلى المدينة، ثم صيّره ثانية إلى الربذة وهي موضع بين مكة والمدينة، خال من السكان، فمات بها في الثالث من ربيع الثاني سنة 32 هجرية، هذه خلاصة حياة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي تعتبر حياته مليئة بالعبر والدروس.

إن هذا النمط من العظماء، يخضع لمراحل صعبة على محك الاختبار تجعلهم بمستوى المسؤولية التي أنيطت بهم، تلك المسؤوليات الهامة والصعبة التي تتعدى مرحلة الذات إلى مستوى أمانة وممثلية لمواجهة الناس على اختلاف أهوائهم، وألوانهم، ومراتبهم، وتتعدى مرحلة الوقت والجيل، إلى عصور وأجيال، ونحن بدورنا نراهم يجتازون مراحل الاختبار هذه، بصبر عجيب، وصمود محيّر، حتى لو أدى الأمر بهم إلى النفي أو إلى الموت، ومن هذا النمط النادر ـ في الإسلام ـ الأركان الأربعة، وهم: (أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر).

لقد عرف هؤلاء الأربعة، بأنهم أول من نادى بالتشيع لعلي (عليه السلام) والولاية له بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لقد نادوا بذلك على أنه من صميم الإسلام. فكانوا المثل الأعلى للثبات على هذه العقيدة، والدفاع عنها. لقد بايع أبو ذر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق، ولو كان مرّاً فالتزم ببيعته (أعيان الشيعة، ج16، ص319).بعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار، فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا، قبلتها، وإن كانت صلة، فلا حاجة لي فيها) (الغدير، ج8، ص293).وقال له ـ ذات مرة ـ حبيب بن مسلمة أحد القادة: (لك عندي يا أبا ذر، ألف درهم، وخادم، وخمسمائة شاة.قال أبو ذر: أعط خادمك، وألفك، وشويهاتك، من هو أحوج إلى ذلك مني! فإني إنما أسأل حقي في كتاب الله..!) (أعيان الشيعة، ج16، ص364).

وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري قال: كنت غلاما لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار بحمل النار، اللهم العن الآمرين بالمعروف والتاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.فازبأر (تهيأ للشر) معاوية وتغير لونه وقال: يا جلام ! أتعرف الصارخ ؟ فقلت: الله لا.قال: من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثم قال: ادخلوه علي فجئ بأبي ذر قوم يقودونه حتى وقف بين يديه فقال له معاوية: يا عدو الله وعدو رسوله ! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع، أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ولكنك استأذن فيك.قال جلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذر لأنه رجل من قومي فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال خفيف العارضين في ظهره حناء فأقبل على معاوية وقال: ما أنا بعدو لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الاسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا عليك مرات أن لا تشبع، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم الذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه (ذكره ابن الأثير في النهاية 1: 112).فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل.قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسمعته يقول وقد مررت به: اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب.وسمعته صلى الله عليه وآله يقول: إست معاوية في النار.فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره.

فوجه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم بعث إليه عثمان: الحق بأي أرض شئت قال: بمكة. قال: لا. قال: بيت المقدس. قال: لا. قال: بأحد المصرين. قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات. بهذه الصراحة، وبهذا الوضوح يرسم لنا أبو ذر بعض مواقفه، إنه لم يكن ليثأر ويغضب لنفسه، بل للحق الذي طالب بتثبيته، وبذلك جعل من نفسه رمزاً يدفع بالمقهورين والمظلومين إلى المطالبة بحقوقهم، وعرض ظلاماتهم. فكان في تصرفاته تلك رائداً من رواد الحق، يجازف بنفسه من أجل الآخرين.أجل، إنه لم يكن ليفعل هذا عن فاقة، أو مطمع، بل كان يريد إلفات المسؤولين ـ في حينه ـ إلى إنصاف المظلومين، وإيصال كل ذي حق إلى حقه.وأعيت الحيلة غرماءه الحاكمين في إسكاته، فعمدوا إلى طريقة ثانية قرروا فيها إسكاته، وكانت طريقة ناجحة ـ في نظرهم ـ فنفوه إلى الربذة.هذا هو أبو ذر، صاحب الكلمة الجريئة، التي لا تعرف المداهنة، ولا الرياء ولا الوجل، وخيّل لجلاديه الحاكمين، أن غضبه إنما كان لنفسه، وأنه ربما كان عن فاقة ألمّت به، أو مطمع يدفعه إلى ذلك، فساوموه رجاء أن يسكت أو يكف، لكنهم وجدوا خلاف ما كانوا يتوقعون.

ويمكن ملاحظة عدة محطات مضيئة في حياة ذلك الصحابي الجليل يمكن تبويبها بما يلي:

1- القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل صلابة ولا يهاب ولا يخاف في تحركه سوى الله سبحانه تعالى.

2- وقوفه بوجه البذخ العثماني والأموي وتعرية سلوك حكام الدنيا في اسرافهم وتبديدهم الأموال لمصالحهم وملذاتهم غير عابئين بما يلاقيه المؤمنون من شظف ومشقة في العيش.

3- عدم المساومة في الحق ورده كل المغريات والمناصب التي عرضت عليه لإخماد صوته ولكنه أبى إلا صراخا بوجه الغاصبين للأموال والحكم بالباطل والغدر والعدوان.

4- حياته البسيطة وتنقله بين البلدان يؤكد أن تحركاته مليئة بالجهاد والتبليغ والدعوة إلى الحق وإيقاد مصابيح الهداية في قومه وعشيرته وبقية الأقوام كما حصل في تبليغه الرسالة في الشام وجبل عامل سنوات عديدة حتى إبعاده إلى الربذة.

5- جرأته في الطرح وعدم مهادنته الطواغيت أكسباه هيبة ووقار ما أضفى على حركته سمة التغيير والإصلاح على مر الدهور.

6- ضرب أروع الأمثلة في النزاهة ونظافة اليد وكرس مبدأ التكافل الاجتماعي بأبهى صورة.

7- خدمة الناس من أعظم النعم التي يتصف بها الصالحون، والخدمات الثقافية والفكرية والاجتماعية التي قدمها أبو ذر للإنسانية هي أشهر من نار على علم.

8- المصداقية التي حصل عليها أبو ذر جعلت مكانته بين الصحابة مرموقة ويشار إليه بالبنان، وقد منحه النبي (صلّى الله عليه وآله) أوسمة عالية أهمها: قوله (صلّى الله عليه وآله): ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر (الإصابة، ج1، ص216). وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن صحة هذا الحديث، فصدّقه. وقال النبي الكريم (ص): من أحبّ أن ينظر إلى المسيح عيسى ابن مريم، إلى بره وصدقه، وجدّه، فلينظر إلى أبي ذر.إن أبا ذر ليباري عيسى ابن مريم في عبادته.رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.إن الله عزّ وجلّ أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبّهم: عليّ، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان.

نداء (أتتكم القطار بحمل النار) الذي أطلقه أبو ذر قبل أكثر من ألف سنة مازال يهتف فينا قائلا: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء : 10] وهو إنذار لكل من سولت وتسول له نفسه التطاول على المال العام، فهو أمانة في أعناق المؤمنين الذين يتخذون من الرسول والأئمة وتلاميذهم وعلى رأسهم عدو المفسدين أبي ذر الغفاري خير أسوة وقدوة لمكافحة الفساد والمفسدين وتقديمهم للعدالة وإنزال أقسى العقوبات بشأنهم لكي يكونوا عبرة لمن اعتبر، وبذلك فقط نستطيع أن نتكلم عن العدالة والتوزيع المتكافئ للثروات على أبناء الشعب كل حسب استحقاقه ورعاية الشرائح المحرومة وانتشالها من هوة الفقر والفاقة وإيصالها إلى شاطئ الكفاف والعفاف والاطمئنان النفسي، وانطلاقا من هذا النداء الذي يحمل بين طياته العقاب الدنيوي والأخروي، نستطيع أن نؤسس لدولة القانون التي هي بحاجة إلى تطبيق العدالة على الجميع وإعطاء كل ذي حق حقه من دون مواربة أو مساومة أو تغطية من جهة على حساب جهة أخرى، هذا ما دعا إليه الصحابي الجليل أبو ذر ومارسه بكل هوادة وأسس لنا جميعا بنيانه، وما يترتب علينا فعله حيال الفساد والانحراف بعيدا عن المحسوبيات والمحاصصات والميول والاتجاهات وفيه من الشفافية والمرونة من أنه غير مختص بزمان ومكان محددين.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
زيــد مغير
2009-03-18
بارك الله فيك أخي حسن ..وكان الرسول الأكرم محمد (ص) حينما يخرج من المدينة ومعه عليا (ع) كان يولي أبو ذر ليصلي بالمسلمين ويحكم بينهم لا غير من أي صحابي ..وقال فيه أيضا (يا أبا ذر ستنفى الى الربذة ونافيك في النار) ..فعلا إن مقالك درس لكل من تسول له نفسه للرشوة والأبتزاز منحن اليوم بحاجة الى تنظيف العراق من هؤلاء الحثالات التي عشعشت فيها الأخلاق العفلقية ..نريد قانون أبو ذر أن ينفذ في كل مؤسسات الدولة
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك