عادل الجبوري
انعطافة حادة وغير متوقعة شهدتها مؤخرا مسيرة العلاقات المتنامية بين بغداد ودمشق، كان سببها الرئيسي العمليات الارهابية الاخيرة في العاصمة بغداد، التي استهدفت وزارتي الخارجية والمالية واماكن ومؤسسات اخرى في التاسع عشر من شهر اب-اغسطس الجاري. الاعترافات التي ادلى بها الشخص المسؤول عن تنفيذ العمليات الارهابية، واعلن فيها ان حزب البعث المنحل، جناح يونس محمد الاحمد المقيم في سوريا هو وراء تلك العمليات، دفعت الحكومة العراقية الى اتخاذ موقف متشدد وغير مسبوق من دمشق، اذ خيرتها بين تسليم البعثيين المطلوبين للقضاء العراقي المتواجدين في سوريا، او اعادة النظر في العلاقات معها. ولم تكتف بغداد بالموقف النظري، بل راحت ابعد من ذلك حينما قررت استدعاء سفيرها في دمشق، في اشارة الى جديتها هذه المرة بأتخاذ اجراءات حازمة، وهو ما دفع دمشق الى اتخاذ خطوة مماثلة واستدعاء سفيرها في بغداد، وانتظار ما تسفر عنه الاتصالات بين الجانبين من نتائج.
لماذا اتخذت الحكومة العراقية مثل هذا الموقف غير المسبوق حيال دمشق، لاسيما وان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قام بزيارة سوريا مؤخرا، وتمخضت تلك الزيارة عن نتائج ايجابية، واعتبرت بنظر الكثير من المراقبين في كلا البلدين بأنها نقطة تحول مهمة لتعزيز وتفعيل ما تم الاتفاق عليه في مناسبات سابقة على الاصعدة السياسية والامنية والاقتصادية والتجارية بين البلدين؟. هذا ربما يكون واحدا من التساؤلات المطروحة بقوة في اوساط ومحافل سياسية واعلامية مختلفة عن سر هذا التداعي والتراجع في علاقات بغداد-دمشق، بعد تحولات ومتغيرات ايجابية خلال العامين الماضيين. الاجابة في بغداد قد تكون واضحة، وهي ايواء دمشق لعناصر رهابية من بقايا حزب البعث المنحل، وهؤلاء ضالعين بأرتكاب جرائم ضد العراقيين ومطلوبين للقضاء العراقي، وعمليات الاربعاء الدامي عززت هذه الحقيقة.
وجانب من رد فعل بغداد القوي، انه لم يمر وقت طويل على زيارة المالكي لدمشق والبحث بالتفصيل مع كبار الساسة السوريين استحقاقات الملف الامني، وافاق التعاون المشترك لمعالجة من المشلات الامنية، وبالدرجة الاساس بحث امكانية تسليم المطلوبين للقضاء العراقي، واكثر من ذلك تتحدث بعض المصادر عن تقديمه قائمة بأسماء 55 شخصا من بينهم يونس محمد الاحمد وسطام فرحان للسوريين طالبا تسليمهم للحكومة العراقية، لان ذلك من شأنه ان يمثل مؤشرا حقيقيا على حسن النوايا والتوجهات. واذا كانت قد ظهرت مؤشرات، وربما ادلة وارقام على تورط سوري مباشر او غير مباشر بدعم ومساعدة جماعات ارهابية في العراق من بقايا حزب البعث المنحل في اوقات سابقة، فأن ردود الافعال العراقية لم تكن بالمستوى الذي بلغته اثر عمليات الاربعاء الدامي.
وفي بغداد، يبدو ان حالة الغضب والاستياء الشعبي من تفجيرات الاربعاء، وقبلها عمليات ارهابية سابقة في بغداد نينوى ومدن عراقية اخرى، قد شكلت عامل ضغط كبير على الحكومة للاقدام على خطوات واجراءات تنطوي على قدر من الشدة والحزم حيال اطراف خارجية ساهمت بشكل او باخر بتأزيم الاوضاع في العراق. بيد انه في ذات الوقت، "لابد ان تكون هناك امور غير معلنة ربما تكون قد دفعت بغداد الى تصعيد الموقف ضد دمشق، وخصوصا ان قيادات حزب البعث المنحل وتنظيماته في سوريا نفذت خلال الاعوام الستة الماضية عمليات ارهابية اما بمفردها او بتنسيق مع تنظيم القاعدة الارهابي، ولم يحصل تصعيد من قبل بغداد مثلما حصل مؤخرا، مع العلم انه من الناحية المنطقية يفترض ان يكون هناك حرص على عدم دفع الامور الى منعطفات حساسة وزوايا حرجة، واللجوء الى القنوات الخاصة لاحتواء "الازمة". هذا ما يقوله بعض السياسيين والمعنيين بملف العلاقات العراقية السورية، ويذهبون الى امكانية ان تكون هناك ضغوطات من اطراف خارجية لايروق لها ان تتعزز مسيرة العلاقات بين بغداد ودمشق، لحسابات سياسية معينة ذات طابع اقليمي، ترتبط بخارطة التحالفات والعلاقات في عموم المنطقة.
ومع ان شيئا من هذا القبيل غير مستبعد، الا ان ما هو مستبعد وغير منطقي وغير معقول، ان ترضخ الحكومة العراقية لضغوطات اطراف معروفة في توجهاتها واجنداتها، للاضرار بسياسة العراق الخارجية القائمة على منهج الانفتاح وحل المشكلات العالقة مع مكونات المحيط الاقليمي والمجتمع الدولي. ودمشق التي عرضت على بغداد استعدادها لاستقبال وفد عراقي للاطلاع منه على الادلة التي تتوفر لديها عن منفذي التفجيرات الاخيرة، اكدت على لسان مسؤولين رسميين انها تمتلك معلومات موثقة على ان جهاز المخابرات الاسرائيلي "الموساد" هو وراء عمليات الاربعاء الدامي، وقبل ذلك اعلن تنظيم القاعدة الارهابي في بلاد الرافدين مسؤوليته عن تنفيذ تلك العمليات، مما عمق الجدل والسجال، وفتح الابواب واسعة لفرضيات متعددة، ومزيد من الاتهامات المتبادلة، التي لايبدو ان كلا من بغداد ودمشق راغبتين في الاستغراق والذهاب فيها بعيدا، بل على العكس، هناك مؤشرات لتوجهات لوضع حد لحالة التداعي، وتطويق "الازمة".
ولعل مبادرات اطراف اقليمية مثل ايران التي زار وزير خارجيتها منوجهر متقي بغداد مؤخرا ، ومن المتوقع ان يزور دمشق في وقت لاحق، وكذلك تركيا التي اعلنت انها سترسل خلال ايام قلائل وزير خارجيتها احمد داود اوغلو الى كل من بغداد ودمشق لمعالجة الازمة بينهما، اضف الى ذلك فأن جامعة الدول العربية قررت عقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية لبحث اسباب التصعيد السوري العراقي، والعمل على تقريب وجهات النظر ازالة سوء الفهم.مثل تلك المبادرات والتحركات يمكن ان يكون لها اثر ايجابي كبير في اعادة الامور الى مساراتها الصحيحة والصائبة.ويبدو ان هناك ادراكا حقيقيا من قبل اكثر من طرف اقليمي وعربي بأن اي تراجع في مسيرة تعزيز العلاقات العراقية-السورية، والعودة الى عهد الصراع والتصادم والمؤامرات سوف ينعكس سلبا على مجمل الوضع الاقليمي، وسيعود بالنفع على قوى تسعى الى صياغة معادلات، ورسم خرائط، ووضع توازنات ملغومة بالمشاكل والمتناقضات والتقاطعات والازمات بين اطراف المنطقة.
والمفتاح الرئيسي هو تفهم كل طرف لخصوصيات الطرف الاخر، وتجنب فرض خياراته عليه، ومثلما قلنا في مقال سابق تحت عنوان (واقعية دمشق السياسية ومعالجة العقد مع بغداد) ، "اذا كانت مطاليب بغداد واضحة ويعرفها صناع القرار السياسي في دمشق فأن مطاليب الاخيرة لاتبدو بنفس القدر من الوضوح، لانها من الممكن ان تفهم من قبل اوساط عراقية عديدة على انها تدخلا في الشؤون الداخلية، او محاولات لصياغة وفرض معادلات سياسية معينة واشراك قوى سياسية مرفوضة ومحظور نشاطها وعملها وفق الدستور، كما هو الحال بالنسبة لحزب البعث المنحل، وهذه القضية هي في الواقع في جانب منها انعكاس لمعادلات وصراعات وحسابات اقليمية معقدة ومتداخلة تلقي ببعض ظلالها على العراق، كما تلقي ببعض ظلالها على بلد تتشابه ظروفه واوضاعه السياسية مع الظروف والاوضاع السياسية في العراق".وربما تشكل طبيعة ومسار العلاقات بين بغداد ودمشق احد ابرز عوامل ومقومات تشكيل صورة الوضع العام في المنطقة، ان كان ذلك ايجابا ام سلبا، لان علاقات ايجابية وجيدة تعني اشياء، وعلاقات سلبية ومضطربة ومرتبكة تعني اشياء اخرى مختلفة.
https://telegram.me/buratha