علي عبدالخضر
لقد مرت أكثر من خمس سنوات على التغيير الذي حدث في العراق ، وبروز الواقع السياسي الجديد الذي حمل المشروع الديمقراطي ، ونبذ الديكتاتورية والاستبداد . وقد حققت العملية السياسية الجديدة انجازات واضحة وكبيرة ، على صعد مختلفة ، رغم حداثة زمنها ، والمعوقات والمشاكل المعقدة التي واجهتها ، وبالمقابل أخفقت في مجالات أخرى ، ولأسباب مختلفة . بيد أن أسئلة مهمة وملحة تطرح نفسها هنا ، بعد هذه الفترة من المخاضات السياسية ، والأحداث والوقائع التي تولدت عنها ، من قبيل : ما هو الحجم الحقيقي لدور الفرد العراقي البسيط في صنع الحياة السياسية الجديدة ؟ وهل يمتلك وعيا سياسيا تجاه دوره ، وتجاه ما يحدث من حوله ؟ ومن الذي يصنع لديه هذا الوعي ؟
وهل يستطيع المواطن العراقي أن يؤثر بشكل ايجابي في عملية صنع القرار السياسي ؟ أو ما يتعلق بالمصالح العامة ، وإعادة البنى الثقافية والاقتصادية والعلاقات الاجتماعية على أسس متينة ؟ لا اخفي أني انتمي لاتجاه وطني يمجد تضحيات الشعب العراقي ويعول على دوره الجماهيري في إحداث التغيير البّناء ، ولكني أحاول هنا أن اكتب بواقعية تفرضها صرامة الموضوعية ، بعيدا عن الآراء المفترضة ، والإطناب الإنشائي الحماسي ، ففي تصوري أن في ذلك مساهمة في خلق رؤية مشتركة للواقع العراقي مع الآخر ، والاعتراف بعدم ادعاء امتلاك العصمة الجماهيرية لأي فئة أو مجموعة ، أو نزاهة المقطع التاريخي الذي نعيشه من الأخطاء !
إن الواقع الذي تؤكده شواهد التاريخ العراقي الحديث والمعاصر ، أن الإنسان العراقي عاش إرثا من الاضطهاد والحرمان والتعسف والإقصاء والإذلال ، سواء من المحتلين أو الحكام أو من بعض المتنفذين اقتصاديا أو اجتماعيا ، مما افقده إرادة الوعي ، وسلبه النظرة الايجابية تجاه نفسه وحياته ومستقبله ، وسلبه الرؤية الواضحة لمجريات الأحداث السياسية التاريخية التي مرت عليه !
فإذا تجاوزنا الفترات المظلمة الطويلة من الاحتلال والاضطهاد أيام الدولة العثمانية وما قبلها وتبدأ مراجعتنا لوقائع التاريخ المعاصر ، من الدولة العراقية الحديثة فقط ، التي نجد النفوذ الأجنبي فيها واضحا إلى حد تنصيب الحكام ، وتهميش دور المواطن البسيط ، الذي بقي بعيدا عن ما يجري من لعب النخب السياسية ومخططاتها التي توالت على الوزارات أيام الفترة الملكية ، وينظر بتوجس وريبة لكل ما هو حكومي سواء قرار أو حدث أو مشروع أو مؤسسة .لتأتي عقب ذلك حقبة الانقلابات العسكرية ، التي كان أبطالها كبار رجال الدولة من القادة العسكريين ، ولم يتغير شيء مهم يذكر في وعي العراقي البسيط أو واقع حياته ، سوى بروز أيدلوجيات متصارعة في الشارع العراقي ( ماركسية أو قومية ) تأثرت برياح التغيير التي طرأت على العالم أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي ، والتي كانت تغذيها دول أجنبية تتنافس للحصول على اكبر مساحة من النفوذ في المنطقة ، وتبناها بعض الشباب المتعلم المندفع الذي كان يطمح لإحداث تغيير ما في الواقع العراقي ، وبدورهم حاولوا التأثير على وعي الفرد العراقي ، وصياغته وفق رؤاهم ، إلا إنهم لم ينجحوا كثيرا ، لان العراقيين لا زالوا حتى ذلك الوقت يعانون من الحرمان والفقر المدقع والمشاكل التي تشغلهم عن السياسة والسياسيين ، فضلا عن توجسهم من الأطروحات الغريبة عن واقعهم ومعتقداتهم وتقاليدهم الاجتماعية .
ومن ثم تمر على العراقيين ، بعد تلك الحقبة ، أقسى وأبشع فترة تاريخية ، هي ديكتاتورية الحزب البعثي الطائفي الشوفيني ، الذي سخر جل موارد وطاقات البلد ، لصياغة الوعي العراقي وفق رؤيته الشمولية ، وعبادة القائد الضرورة ، وعسكرة المجتمع ، من خلال بثه تلك المفاهيم في المناهج التعليمية التي أعدها للمدارس والجامعات ، أو من خلال وزارته للثقافة والإعلام ، وغيرها من الأساليب ، وبالمقابل اضطهاد وإخضاع كل رأي أو كلمة أو معتقد خلاف ذلك ، ليسلب أية حالة وعي حقيقية لدى العراقيين ، كما انه قام بعزل العراق عن العالم الخارجي بشتى أدوات وأجهزة الرقابة والمخابرات والأمن .فماذا كانت نتيجة تلك السيناريوهات القمعية ؟ النتيجة كانت وعيا مغلقا مشوها لدى الكثيرين ، الذين أصبحوا يعانون التردد والازدواجية وقصر الرؤية ، والتوجس من الآخر ، والشعور بقصور الذات .
وبعد سقوط نظام صدام ، اصطدم ( الوعي الغائب لفترة قرون من الزمن ) بحالة الانفتاح المفاجئ ، وكسر قيود الحريات ، والتحرر من قيود سلطة الرقابة القمعية ، فانبثقت رؤى متضادة غير متزنة وغير ناضجة تقاطعت إلى حد التطرف ، وخلقت منافذا وبؤرا لتنفيذ أجندة طائفية أو فئوية محلية أو أجنبية ، أخذت تغذي ذلك التطرف والتقاطع ، رمى البلد إلى دوامة من العنف والإرهاب . إلاّ أن الأصوات المتعقلة والإرادة الصلبة من المرجعيات الدينية وبعض القيادات الوطنية السياسية والثقافية ، استطاعت أن تؤثر على وعي المواطن العراقي بشكل ايجابي إلى حد حفظ التوازن المطلوب للحفاظ من حالة الانفلات الكامل في خضم هذه الدوامة المتشابكة من الأحداث والإرهاصات .
ولكن لا زالت هناك مساحة من الوعي غير الناضج ، متأثرة بانتمائتها الفئوية أو الطائفية أو القومية ، والإعلام والسياسات التي تبثها الكتل السياسية التي تمثل تلك الجهات ، و لا زال البعض يعاني من غياب الوعي والإرادة ، واللامبالاة مما يجري حوله ! و لا زالت بعض القوى الوطنية تشوب مشاريعها المصالح الفئوية ، وتحاول أن تحجم الوعي السياسي لأتباعها ، لتمارس سيطرتها والتأثير عليهم بيسر ،بغية تحقيق أجندتها المتخبطة بين مصالحها الخاصة ، والمصالح الوطنية التي تدعيها ، والشاهد على ذلك ما نراه من اتجاهات جماهيرية متباينة أيام الانتخابات ، تحت تأثير الدعاية والإعلام ، وليس وفق رؤية واضحة وموضوعية . إن ذلك من شانه أن يبقي على حالة الصراع والتنافس السياسيين غير الطيبين لدى الناس البسطاء في الشارع العراقي ، اللذين هما ترجمة للصراع والتنافس السياسيين لدى القيادات السياسية ، مما يؤثر سلبا على الواقع العراقي ، ويبقي على حالة المحاصصة في كل مفاصل الدولة ، ويعيق الإسراع بخطوات التقدم وإعادة البناء ، ويفسح المجال للمفسدين لاختراق الوزارات والدوائر والمؤسسات الحكومية ، ويشجع العنف والإرهاب والإجرام .
من هنا تكون الحاجة الحقيقية إلى تأسيس مشروع وطني يهدف لبناء وعي سياسي ناضج لدى الإنسان العراقي البسيط ، بشرط تضافر الجهود السياسية والتربوية والثقافية والإعلامية ، يشترك فيها جميع الوطنيين المخلصين ، وينبغي وضع استراتيجيات على أسس علمية متينة للنهوض بالوعي العراقي ، ومهما كان تصور ذلك مثاليا وصعبا ، إلا انه في كل الأحوال ليس مستحيلا ، وهو واجب شرعي وطني ، ومهما كانت الخطوات الأولى بطيئة وتواجه التعقيدات ، إلا إنها ستؤدي حتما إلى نتائج طيبة تدريجيا ، إذا كانت تحافظ على اتجاهها الصحيح .ومما يدعو إلى التفاؤل ، أن هناك مشاريع وطنية تلوح في الأفق القريب ، تتخذ منهجا سياسيا متوازنا ، وتطرح خطابا حياديا ، تبشر بحالة وعي جديد ناضج ، خاصة وان الانتخابات البرلمانية المقبلة ، تمثل شوطا مهما آخرا من أشواط العملية السياسية في العراق الجديد ، قد تتبلور فيه اتجاهات الرأي العام بشكل ايجابي ، نتيجة ممارساته في الأشواط السابقة .
https://telegram.me/buratha