هل ستتحقق أهداف أعداء الشيعة في سفك دمائهم واستلابهم حقوقهم في مياه ونفط العراق؟ لو افترضنا جدلاً حدوث ذلك، وهو في تقديري ضرب من المحال، فلن يخرج الشيعة وحدهم خاسرين، بل أن خسارة الأطراف العراقية المشاركة في هذا التدبير الخبيث أعظم، (بقلم الدكتور : حامد العطية )
ترجح بعض المصادر اشتقاق كلمة العراق من العرق، وجمعها عروق، وقد سمي بذلك لكثرة نخيله وشجره، وكما هو معروف فللبشر عروق، وللصخر والتراب كذلك عروق أو أشباه العروق، وكل ثمين في العراق يجري في هذه العروق: الدم والماء والنفط، مع الفارق الكبير في القيمة والأهمية، فلا شيء يساوي في قيمته الدم، وإن كان الماء يباع ويشترى وللنفط سوق، فلا يوجد سعر للدم، وما يدفع لبائعي دمائهم ثمن رمزي لا أكثر، وبداهة لا يساوي الماء والنفط شيئاً بدون الدم، لكن الكثيرين لا يفكرون أو يعملون بهذه القاعدة، وهؤلاء المستكبرون العنصريون يقدمون الماء الذي يشربونه ويغسلون به قاذورات أبدانهم والنفط الذي تحرقه سياراتهم وأدوات ترفهم في الأهمية على دماء غيرهم، وبذلك غدا مشروعاً لديهم إهراق دم إنسان أو - لو تطلب الأمر- أعداد غفيرة من البشر في سبيل حصولهم على الماء والنفط.
في العراق اليوم دم شيعي بريء يهرق يومياً، حتى لا تعرف بقعة فيه لم تعطرها هذه الدماء الزكية، ولوكان في الإرض مستودع ظاهر أو جوفي لدماء الشيعة، لتي أريقت عبر الأزمنة الماضية، لكان في العراق آبار للدم مثلما هنالك آبار للنفط، ولكان احتياطيه من الدم الشيعي الأكبر في العالم، ولتكونت بحيرة للدماء الشيعية تبدو بحيرة الثرثار بجانبها مجرد بركة.لم يخف القتلة انتماءاتهم الطائفية، وقد صرحوا بعدائهم وكرههم للشيعة، واستعدادهم لإبادة جميع الشيعة، لو استطاعوا ذلك، كما تسترت عليهم قياداتهم الدينية والمدنية، بل دافعت عنهم، واختلقت المبررات لأفعالهم الإجرامية، وآخرها الاحصائيات المزيفة عن قتلاهم المزعومين، وتمادى أعداء الشيعة في عدوانهم ليشمل ترويع وتهجير الشيوخ والنساء والأطفال، وهدم الأماكن المقدسة للشيعة، وبالمقابل التزم الشيعة بأوامر وفتاوي قادتهم الداعية إلى ضبط النفس والامتناع عن الرد صاعاً بصاع، حتى أغروا بهم أعدائهم، وعرضوا وجودهم للخطر الداهم.وإدعاء قتلة الشيعة بأن أصل عدائهم للشيعة عقائدي باطل وسخيف، فهو في حقيقته أحقاد فاقدي العقيدة والمباديء والقيم على الشيعة، حملة العقيدة والقيم السامية، وما الخلاف على الأحقية في الخلافة أو حول عدالة بعض السلف سوى ستار تمويه أسدله الطرف اللاعقائدي على التباين الحاد بين الطرفين، والذي كان الشيعة فيه الطرف الملتزم بالنص الشرعي، وبالعدل ركناً للدين وللحكم والحياة، وبالعلم منهجاً لتحصيل المعرفة، وبالاجتهاد قاعدة انفتاح على التطور، فيما اختار الطرف الآخر الانتقائية في التعامل مع النص، ونفي العدل إلى مكارم الأخلاق في حدود الاستطاعة، وتأسيس لمشروعية الحكام الطغاة اللاشرعيين بدعوى كونهم أولي الأمر، ورفض العلوم الوضعية على منهج الأشعرية، وإغلاق باب الاجتهاد، وهي فروق عقائدية جوهرية غير قابلة للتسوية أو للحلول الوسط. لا يعدوا الفكر المناويء للشيعة عن كونه غطاءً فكرياً واهياً للفئات الحاكمة وأتباعها، يريدون به إضفاء الشرعية على تسلطهم واستئثارهم بالحكم والثروات وحرمان الغير منها، وتاريخياً طالت سياستهم في الاقصاء الشيعة وغيرهم من الجماعات العقائدية والاجتماعية، لذا فالهجوم على شيعة العراق مدفوع لا بمواقف عقائدية كما يدعون بل بمصالح سلطوية واقتصادية. تضم القوى المتحالفة ضد الشيعة العراقيين الذين خسروا مواقع السلطة والنفوذ واحتكار المنافع مع سقوط النظام البعثي الفاشي، والأعراب الأشد تكفيراً وكفراً ونفاقاً، والقوى الأجنبية، وعلى الرغم من التباين الظاهري بين مواقف هذه القوى، لكنها تلتقي جميعاً حول أهداف ثلاثة رئيسة وهي: إراقة دماء الشيعة واستلاب خيرات بلادهم من الماء والنفط. يريد أعداء الشيعة من العراقيين إهراق كل دماء الشيعة -إن تمكنوا من ذلك- والاستيلاء على مياههم ونفطهم، وقد سعوا لذلك في السابق بشن الحروب التي راح وقوداً لها ملايين الشيعة والإبادة الجماعية التي تشهد عليه القبور الجماعية، وتجفيف مسطحاتهم المائية التي تشكل مخزوناًً استراتيجياً ضخماً للمياه، والتحكم بثروتهم النفطية في جنوب العراق وحرمانهم من الانتفاع بها. أما أعداء الشيعة من الأعراب فيريدون أيضاً أن يتواصل نزيف الدماء الشيعية، لئلا تسري عدوى تحرر شيعة العراق إلى الشيعة في بلادهم، فيتجرأون على المطالبة بأبسط حقوق المواطنة التي حرموا منها، وهم يدركون جيداً بأن إضعاف الشيعة هو إضعاف للعراق، لأن الشيعة هم العراق، والعراق هو الشيعة - مع الحفاظ على حقوق الآخرين كاملة تطبيقاً لمبدأ العدل المطلق الذي هو ميزة الشيعة، ويندرج ضمن هذا الجهد الأعرابي الخبيث تخريب الاقتصاد العراقي وأيقاف مسيرة التنمية فيهم، فهم لا يريدون عراقاً قوياً بجوارهم، وبنفس القوة التي يكرهون رؤية إيران مستقلة ومنيعة، ولغرض إنهاك الطرفين حرضوا النظام البعثي الفاشي على شن الحرب على إيران، بدعوى منعها من تصدير ثورتها الإسلامية، وهاهم يعودون مرة أخرى لنفس الخدعة المكشوفة، تحت شعار : الحذر مما أسموه الهلال الشيعي وتهميش السنة! وقد انطلت بسهولة على أيتام النظام السابق، وإذا كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فما هي صفة من يلدغ؟ وما لا يدركونه، أشباه أبي رغال، هذه المرة هو أنهم بإثارتهم الحرب الأهلية سيخربون بيوتهم بأيديهم من القواعد.
ومتى ما تحقق للأعراب هدفهم في إضعاف العراق تيسر لهم بلوغ مآربهم الشريرة الأخرى، وهي إخراج النفط العراقي من السوق، أو على الأقل تهميش دوره، حتى تخلو لهم السوق النفطية، ويهيمنوا عليها، خدمة لمنافعهم الأنانية ولمصالح أسيادهم الغربيين، كما أن لدى العراقيين مورد آخر يطمعون به، وهو الماء، ومن المعروف شح المياه في بلدانهم القاحلة، وعلى مدى عقدين ماضيين ابتلاهم الله بالجفاف، ولا يفوتني هنا التذكير بالآية القرآنية الكريمة (ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا)، في الوقت الذي أسرفوا إلى أبعد الحدود في استهلاك القليل المتبقي حتى تدنى مستوى المخزون من المياه الجوفية إلى حد ينذر بنضوبه خلال عقد من السنين، فمن أين سيأتوا بمياه للشرب ولخلطها بماء البحر المصفى؟ المصدران الوحيدان القريبان هما النيل والرافدين، ومن المستحيل اقناع الأثيوبيين العطاشى أو حتى السودانيين أو المصريين المحرومين بالتفريط بجانب من المورد الوحيد الذي يفصلهم عن المجاعة، أما العراق فقد باعه صدام وفئته وفرطوا بوجوده من قبل في حربه ضد إيران، ولا أشك بأن هذه الفئة نفسها على أتم الاستعداد لضخ مياه الرافدين إلى العربان، ولو مات الشيعة من العطش فخير على خير في ناموسهم الهمجي، ولن اتعجب لو وهبوا بعضاً من مياهنا إلى الصهاينة، حلفائهم الخفيين، في إطار صفقة التسوية النهائية، والماء عنصر أساسي في التسوية التي تريدها الدولة الصهيونية، ومن شروطها محاصصة اللبنانيين الشيعة الجنوبيين في مياههم ورفض عودة السيادة السورية إلى خطوطها السابقة على ضفاف بحيرة طبريا.
يضم الثالوث غير المقدس المعادي للشيعة القوى الأجنبية، التي لا تريد خيراً بالعراق، وشيعته بالتحديد، وهم الأمريكان وحلفائهم ودولة الصهاينة، وهؤلاء أعلنوا جهاراً وتكراراً عدائهم للشيعة في إيران وفي لبنان: وأكدوا على أن هدفهم في تدمير قوة الشيعة استراتيجي، في الوقت نفسه الذي أداروا ظهورهم للإرهابيين، الذين هاجموهم في عقر ديارهم، في نيويورك وواشنطن ولندن ومدريد، لكونهم يدركون جيداً بأنهم ظاهرة استثنائية على الفئة المستكينة التي ينتمون إليها، والتي خدمت ولا تزال مصالحهم، أي القوى الأجنبية بولاء وإخلاص لأمد طويل، ولعلهم مقتنعون بأن هؤلاء ردود فعل أثارتها ثورة الشيعة في إيران، لذا فالقاعدة ما هي إلا فقاعة سرعان ما تتبخر، ولن يكون مصيرها بأفضل من الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، لأن كل هذه الحركات تشذ على القاعدة الفقهية الراسخة لدى أهل السنة والقاضية بتحريم الخروج على الحاكم، حتى لو كان فاسقاً وظالماً، منعاً للفتنة، وهذا الحكم الفقهي كما أسلفت متناقض تماماً مع عقيدة أتباع آل بيت النبوة، لأن الفتنة الأعظم والأشد مضاضة وخراباً هي مهادنة الظالم والسكوت على ظلمه، وكما ثبت من سكوت العراقيين الشيعة على حكم صدام ومن سبقه، وكذلك استكانتهم أمام الهجمة الإرهابية الرامية إلى إبادتهم تحت تأثير فتاوى وتوجيهات لا أساس لها في أحكام المذهب الجعفري.
هذه القوى الأجنبية التي احتلت العراق بذريعة تخليصه من نظام صدام البعثي أتت في الواقع لتحويل الإهتمام عن أماكن تفريخ وانطلاق وتمويل الإرهاب، التي يحكمها حلفاؤهم وجعل العراق حلبة للصراع مع الإرهابيين، وقد كشف الرئيس بوش عن هذا المخطط الخبيث حينما دعا الإرهابيين إلى المنازلة على أرض العراق. والأمريكان وحلفاؤهم طامعون أيضاً بقواعد عسكرية عند البوابة الشرقية لحقول النفط العربية، ولتهديد إيران الخارجة عن نطاق هيمنتهم، بعد أن انتهت مؤامرتهم لضرب شيعة إيران بشيعة العراق بتدبير بعثي-إعرابي مشترك إلى نتيجة غير حاسمة، ويبدوا بأنهم يتخوفون من ظهور كيان شيعي كبير يضم إيران والعراق وربما أذربيجان (الهلال الشيعي؟)، يتميز بقدرات إقتصادية وبشرية واستراتيجية هائلة، ويشكل نواة جذب سياسية واقتصادية لدول اخرى مثل سوريا وللأكثريات والأقليات الشيعية في لبنان ودول الخليج وافغانستان والباكستان، وقد سعوا بجهد محموم من قبل لاستباق محاولات إيران في تشكيل مثل هذا الكيان مع دول آسيا الوسطى الغنية بالنفط التي استقلت بعد انهيار الإتحاد السوفيتي. وللقوى الأجنبية أهداف اخرى بجانب إضعاف شيعة العراق ومنعهم من تكوين نظام سياسي قوي مستقل على أساس من القيم والمباديء السامية، فلا أحد ينكر أطماعهم في نفطه، ومن الواضح بأنهم يريدونه إحتياطياً للمستقبل، لذا سعوا جاهدين لعرقلة استخراجه وتصديره، خاصة من الحقول الجنوبية في مناطق الشيعة، ومن المؤكد بأن المتحكم غداً بمياه ونفط العراق سيلعب دوراً رئيساً في المنطقة، فهل من المعقول أن تمكن أمريكا وحلفاؤها شيعة العراق من ذلك؟
هل ستتحقق أهداف أعداء الشيعة في سفك دمائهم واستلابهم حقوقهم في مياه ونفط العراق؟ لو افترضنا جدلاً حدوث ذلك، وهو في تقديري ضرب من المحال، فلن يخرج الشيعة وحدهم خاسرين، بل أن خسارة الأطراف العراقية المشاركة في هذا التدبير الخبيث أعظم، وبدون قوة الشيعة المكون البشري الرئيس في العراق سيكونون حتماً أضعف مما هم عليه الآن وهدفاً سهلاً لسيطرة الأعراب والقوى الأجنبية فهل هذا هو المكسب الذين يقتلون الشيعة من أجل بلوغه؟ هنالك صراع دائر في العراق اليوم، سيفضي عاجلاً لا آجلاً إلى حرب أهلية، يكون أول الخاسرين فيها المراهنون على عدم حدوثها، خوفاً على مناصبهم ومصالحهم، وسينتهي الصراع حتماً بانتصار كاسح للشيعة تحت إمرة قيادات سياسية ودينية جديدة.
الدكتور حامد العطية
https://telegram.me/buratha