علي محمد البهادلي
ثقافة المنفعةإن مبدأ البراغماتية الذي وُلِدَ في أحضان الحضارة الغربية الذي غدا منهج عمل في كل مفاصل الحياة هناك ، تسرب إلينا فأصبح الإنسان هنا ، الذي يُفترَض أنه يقدم المصلحة العامة على مصالحه الشخصية حتى لو كان ذلك يلحق ضرراً بنفسه بسبب الموروث الديني الذي يدعوه إلى ذلك : (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )) ، يحتذي ذلك النموذج فأصبح يقدم أهواءه ومصالحه وهمومه الفردية على المصلحة العامة ، ولا يعبأ بالمجتمع ولا بمشاكله، فتعاملات الفرد في البيت والدائرة والشارع كلها أصبحت تفتقر إلى الأخلاقية الدينية التي تناهض الأنانية الفردية وتستهجن عدم مشاركة الآخرين همومهم وتطلعاتهم ، فعندما يحلم شخص ما ، مثلاً ، بوظيفة معينة أو منصب معين يسعى ما أمكنه ذلك إلى تتبع عثرات الآخرين ومن ثم تسقيطهم ، ويضع العراقيل في طريق نجاحهم ؛ ليحل هو محلهم ويختطف الفرص منهم ، وإذا سنحت له الفرصة أن ينهب المال العام أسرع في الإقدام عليها ، أما تقديم الخدمات والإعانات للمواطنين والسعي الجاد من أجل تطور البلد وتنميته الاقتصادية ، فإنه لا يتقدم خطوة واحدة في هذا الاتجاه إلا إذا كان يصب في مصلحة مستقبله المالي و السياسي . من الأسباب التي أسهمت في تفشي مثل هذه السلوكيات والأخلاقيات هو افتقار الكثير من السياسيين إلى ثقافة معنوية تحترم قيمة العمل وقيمة الإنسان ، فالفرد إذا أحس بوجود حس داخلي يحضه على عمل الخير وتقديم المساعدة للآخرين والمشاركة في بناء المجتمع من كل النواحي سواء الثقافية أو الأخلاقية أو السياسية والاقتصادية وأخذ يشعر بـ ( الواجب ) الأخلاقي فإنه سيبادر إلى هذه الأعمال حتى لو كانت نتيجتها الإضرار بمستقبله الشخصي وميوله وتطلعاته الفردية ؛ لأن الواجب الأخلاقي يعطي للعمل قيمته ليس على أساس ما سيجنيه الفرد من هذا العمل ، بل إن قيمة العمل هي ما يمثله من رجحان في ميزان الأخلاق .إن النخب السياسية في العراق الجديد على الرغم من الشعارات التي ترفعها من وجوب خدمة المواطنين وتوفير السكن ومكافحة الفساد والقضاء على البطالة والعمل الجاد من أجل الوصول بالبلد إلى مرحلة التنمية الاقتصادية والرفاهية ، لكن أكثر وعودها "خلب" وسراب يخدعون به المساكين من الناس الذين لا حول لهم ولا قوة في ظل الوضع المأساوي الذي يعيشونه ، وستؤثر مثل هذه الوعود الكاذبة في منظومة المجتمع القيمية ؛ لأن أفراد المجتمع عندما يرون النخب السياسية التي تتصدر المشهد السياسي العراقي تتميز بـ " الازدواجية " و "الانتهازية " وتعد بشيء وتفعل شيئاً آخر ، وتتملص من وعودها ، وتثري على حساب الناس ، فإنهم ـ أي أفراد المجتمع ـ ستضعف لديهم موجة الرفض لهذه السلوكيات ، وستغدو من المقبولات بل من بديهيات الشخصية الناجحة ، فتبدُّل القيم الأخلاقية والاجتماعية مرهون بعدة أسباب ، منها أداء النخب الحاكمة والشخصيات التي لها حظوة ووجاهة في الحياة الاجتماعية ، وقديماً قيل " الناس على دين ملوكهم " ، وفي القرآن الكريم الكثير من الأمثال التي تصلح أن تكون شاهداً على تأثير الواجهات السلطوية والدينية في المجتمع بغض النظر عن صلاحها أو طلاحها ، فبعض الشخصيات المتنفذة قام بأعمال غير صالحة وقبيحة ولا تتناسب مع كرامة الإنسان ، لكن المجتمع أطاعه وأخذ يحـذو حـذوه بالتـدرج ، ففرعون كما أخبرنا القـرآن الكريم عنه : (( استخف قومه فأطاعوه )) أما السلطة الدينية ، فهي الأخرى تؤدي دوراً بالغ الأهمية في هذا الاتجاه ، فالأحبار والرهبان كانوا يقومون بالدور نفسه الذي تقوم به النخب السياسية ، قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم : (( إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله)) فهم من جهة يدعون الناس إلى عمل الخير ومساعدة الفقراء والإيمان بالله والقيم الدينية السامية ، وفي الوقت نفسه يعملون أعمالاً تناقض تلك النصائح التي يوجهونها للمجتمع ، وهذا ما يجعل أفراد المجتمع يصابون بخيبة أمل ؛ بسبب هذه الازدواجية ، ويكفرون بكل القيم والمبادئ التي ترفعها تلك النخب ، بل قد يؤدي أفراد المجتمع الدور نفسه الذي قام به من كان قبلهم عند تسنمهم المسؤولية ، لذا ينبغي للأحزاب والتيارات لا سيما الإسلامية منها أن تحاول قدر إمكانها نفع المواطنين والابتعاد عن الوعود المعسولة وتجنب الإغراق في " الأنا " الفردية أو الحزبية والفئوية ؛ لأن ذلك سوف يجعل الناس تُعرِض عنهم وعن الأيدلوجيات التي يتبنونها ، ولا أعتقد أن من السياسيين من يرضى بهذه النتيجة ، لكنها ستكون حتمية ، ولا يستطيع أحد دفعها.
https://telegram.me/buratha