سامى الجلولى
«آل ثانى» تمردوا على مشايخ البحرين بتواطؤ الإنجليز وانتهى الصراع بمعاهدة للاعتراف بانفصال «مشيخة قطر»
أين تكمن أهمية «قطر» بالضبط؟ ما الذى جعل صوتها عالياً وحضورها طاغياً ونفوذها يتخطى تاريخها وحدودها الجغرافية؟ لماذا تبدو لكل من يأتى على ذكرها -متفقاً أو مختلفاً- مثل كائن «مفتعل»، أو رأس من دون جسد يستند إليه، ومع ذلك يثير -هذا الكائن أو ذلك الرأس- كل هذه الأسئلة؟ يقول المثل الدارج: «إن كل ذى عاهة جبار»، وعاهة «قطر» أنها بلا أى حيثية سياسية: لا إقليمياً ولا دولياً ولا حتى فى إطار محيطها المحلى.. أى بالقياس إلى جيرانها فى الخليج. لكنها رغم ذلك ابتكرت لنفسها حيثية ونفوذاً جعلا منها -خلال سنوات قليلة- نقطة التقاء مصالح ومكائد وخطط تقسيم و«مؤامرات كونية» ضد دولة عريقة وشاسعة ومؤثرة مثل مصر.. مصر التى تستطيع بسهولة أن تقول إن عمر مقهى «الفيشاوى» فى «حسينها» أقدم وأشد تأثيراً من كل دولة «قطر»!
إلام تستند قطر فى تلك الحيثية وذلك النفوذ؟ إلى «غازها» أولاً، ثم إلى «جزيرتها» ثانياً، لكن الأهم هو تلك الشهوة الجامحة لدى عائلتها الحاكمة لتعويض عقدة نقص كامنة فى البنية السياسية والتاريخية لهذه الدولة. غير أن كل هذه المقومات لم تحقق لـ«قطر» سوى دور «سمسار» مصالح فى معادلة نفوذ جديدة، معادية للتراث السياسى والثقافى، الذى يفترض أنها تنتمى إليه.
ما الذى يمكن أن تتوقعه من «سمسار» سوى أن يكون منحازاً، بل وعدائياً فى انحيازه لما يظن أن فيه إثباتاً لوجوده وتعويضاً لعقدة نقصه.. حتى إذا كان الأمر يتعلق بمصالح ومخططات قوى شريرة أكبر منه بكثير، تسعى إلى تفتيت أو تفكيك أو تدمير محيطه المحلى والإقليمى؟
ما الذى يمكن أن تستثمر فيه دولة مثل قطر «غازها» إن لم يكن شراء الذمم والمواقف، وما الذى يمكن أن تروج له «جزيرتها» إن لم يكن خطابات تحريض وكراهية، ورسائل إعلامية تتنافى وأبسط قواعد المهنية واللياقة؟. لكن السؤال الأهم، الذى يعنينا، هو ما الذى نتوقعه من دولة تافهة سياسياً، قبلت وقبِل حكامها على أنفسهم أن يكتفوا بدور «السمسار» فى هذا المخطط الاستعمارى البغيض.. إن لم يكن «فساد جوف» هذا المخلوق وكثرة فضائح نظامه العشائرى الحاكم؟
«قطر من الداخل»: يبدو هذا موضوعاً مغرياً فى ضوء ممارسات وتحالفات ومواقف قطر المخجلة والعدائية تجاه جيرانها وتجاه محيطها الإقليمى، والسؤال عن «الدوافع» يبدأ بالضرورة من قراءة وتفكيك بنية النظام الحاكم لقطر بكل ما فيه من تقلصات وانقلابات عشائرية، فضلاً عن توزيع الأدوار وتداولها بين عناصر قوة هذا النظام، سواء كانوا أفراداً من العائلة الحاكمة أو مؤسسات إعلامية مثل قناة «الجزيرة»، أو استثمارية عابرة للقارات. من هنا تأتى أهمية هذا الكتاب الذى وضعه الباحث السياسى التونسى، الدكتور «سامى الجلولى»، واختار له عنواناً استشرافياً بعامية خليجية هو «وين ماشى بينا سيدى».
استهل المؤلف كتابه المهم والمثير للفضول بتمهيد أقرب إلى رثاء لما وصل إليه حال العالم العربى من فوضى وتقتيل وعطالة باطنية وغباء سياسى، وأشار فى تمهيده إلى أننا نؤسس لعصر جديد، وليمته ذبائح بشرية ووقوده نفط، وحطبه أجساد خيرة شباب هذه الأمة.. «نعلم الصغير كيف نقتل، وننتشى بصورة الأشلاء التى تبث على التليفزيون تحت صيحات التكبير. هذا هو الدين الإسلامى فى نسخته الجديدة الذى يبشر به عصر الجماهير الجديد»!. ويختم «الجلولى» تمهيده مندداً بـ«تواطؤ» النظام القطرى مع بعض النافذين وأصحاب القرار السياسى والمالى.. «فى ظرف سنة واحدة سقطت أنظمة وشردت عائلات وسقط الآلاف من الضحايا، والهدف من كل هذا؟.. تحقيق الديمقراطية ونشرها بالوطن العربى».
لا يمر صيف دون الكشف عن محاولة انقلابية فى قطر تتكتم عليها قناة «الجزيرة المخابراتية» ثم يهرب منفذوها إلى أعالى أوروبا
1 - آل ثانى
تمرّد آل ثانى، ممثلين فى الشيخ قاسم بن محمد آل ثانى، على آل خليفة، مشايخ البحرين، بتواطؤ من الإنجليز، ودخلوا فى صراع مع حاكم البحرين، الشيخ محمد بن خليفة، والذى انتهى فى 12 سبتمبر سنة 1868م بتوقيع الشيخ محمد معاهدة تحت الإكراه مع الكولونيل «لويس بيلى» المقيم البريطانى فى الخليج، تم بمقتضاها الاعتراف بانفصال هذه المشيخة التى أصبحت تسمى «دولة قطر».
لم يهنأ لآل خليفة البال حتى بعد تواطؤ الإنجليز معهم، فهم كعادة العرب تتوجس خيفة من العرب، فعملوا سنة 1871 على ربط علاقات حماية مع العثمانيين فى الأحساء لحمايتهم من اعتداء البحرين.
القرضاوى
بدأت الانقلابات فى مشيخة قطر عندما عين «حمد بن عبد الله آل ثانى» أخاه «على بن عبدالله آل ثانى» خلفاً له، لأنه أصلح من ابنه «خليفة»، لكن شقيقه «على» ترك الحكم لابنه «أحمد» ولم يُعِده لـ«ابن حمد» المسمى «خليفة بن محمد آل ثانى»، فأدى هذا التحول إلى نشوب سلسلة من الانقلابات العائلية، وعوض أن يُرجع «على» الحكم لابن أخيه سلمه لابنه «أحمد»، الذى قام بدوره بتعيين «خليفة» ولياً للعهد لجبر الخواطر، لكن «خليفة» رفض ذلك وقام بانقلاب عسكرى على «أحمد»، وقام بتوطيد حكمه بأن سلم مقاليد الدولة لأبنائه. كانت تلك هى البذرة التى قام عليها نظام الحكم، والتى أدت فيما بعد إلى انقلابات عائلية متكررة، تارة دموية، وتارة أخرى بيضاء كالثلج، لم يكن «خليفة» يعلم بأن الضربة ستأتيه من حيث لا يحتسب، من ابنه البكر «حمد» سنة 1995، الذى بدوره -حمد- نجح من محاولة انقلابية فاشلة قام بها ابنه «جاسم» سنة 2009.
موسم الهجرة إلى الشمال
رواية للأديب السودانى «الطيب صالح»، استعار أهل النفوذ والسلطة فى قطر عنوانها لجعلها الفترة المناسبة للتخطيط لأعمالهم الانقلابية ضد الحاكم بأمره، وإن كان موسم الهجرة إلى الشمال فى رواية «صالح» يقصد به الهجرة للاطلاع على الآخر بما يحمله من مفاهيم وقيم مختلفة، فإنه فى الحالة القطرية يقصد به حزم الأمتعة صيفاً للتوجه نحو أعالى أوروبا هرباً من حر قطر الملتهب، الأغنياء منهم لا يكتوون بهذه الحرارة، فهى جُعلت فقط للعمالة من البنغال والهنود وللفقراء والمنبوذين من الشعب القطرى، أما صفوة القوم فلهم رب يحميهم، رب المال والنفوذ.
غير أن الحاكمين بأمرهم فى قطر يغبطون حتى الذين لا يقدرون على دفع مصاريف موسم الهجرة إلى الشمال، فإن كانت أجسادهم فى الشمال فإن عقولهم وقلوبهم فى الجنوب خشية من الغدر والخيانة، شأنهم كشأن أى حاكم غير عادل يخاف من ظلمه للناس، ومن قطعة للرقاب وللأرزاق، فليس أخطر من أن يضيق العيش على معدم، وتضيق السبل بمنكسر الجناح.
ميزة الانقلابات فى مشيخة قطر، أنه يبدأ التخطيط لها فى فصل الشتاء لتكتمل فصولها فى فصل الصيف، تقريباً لا يمر صيف دون الكشف عن محاولة انقلابية، الكثير منها يقع كتمانه رغم وجود قناة المخابرات «الجزيرة» على بعد أمتار فقط من المواقع المسترابة، مما يجعل من صيف قطر جحيماً فوق جحيم، وكأن الله أراد بالحاكمين بأمرهم فى المشيخة العذابَ فى الدنيا قبل الآخرة، لا يهنأ لهم بال، لا فى الشتاء ولا فى الصيف.
تبدو مشيخة قطر بحجمها الصغير كقرية وديعة، وهى ككل دول الخليج العربى حارة جداً صيفاً، بما لا يسمح لأهلها بالبقاء فيها خلال أشهر القيظ، فتبدو شبه خالية إلا من العمالة الآسيوية الرخيصة والمغلوبة على أمرها، مما يساعد على أى تحرك عسكرى، لا يتحرك العسكر إلا عندما يخرج الأمير فى رحلته الصيفية، فهو وإن خرج يحمل معه ما ثقل من المتاع ومن الحجّاب والخدم، وكل الذين لا ينالون ثقته.
2 - المرأة التى هزت عرش قطر
موزة بنت ناصر المسند، والدها واحد من أعيان قطر، كان معارضاً لحكم آل خليفة، تكبد والدها ناصر المسند، بسبب دفاعه عن حقوق أهل قطر، التضييق والسجن، واضطر إلى اختيار المنفى الاضطرارى عام 1964 متوجهاً إلى الكويت يصحبه آلاف القطريين من أتباعه ومحبيه، تعبيراً عن مكانة الرجل ومستوى التضامن مع ما يمثله من معارضة ومطالبة.
كانت دعوته لكبار أهل قطر، ومنهم والده وآخرون، أن يقوموا بواجبهم، وأن يفاتحوا حاكم قطر ويصارحوه، مطالبين بحقوق أهل قطر والمساواة بينهم فى الحقوق والواجبات عامة، وفى الانتفاع من عائدات النفط تحديداً، كما يطالبون الحاكم بتطبيق إصلاحات اقتصادية واجتماعية والمساواة أمام العدالة وفى القانون، ووقف حظر الهجرة وضبط عملية التجنيس، أسوة بما حققته دولة الكويت، وما تقدمه لمواطنيها فى ذلك الوقت من رعاية وحماية وخدمات اجتماعية ومساواة أمام القانون والمحاكم.
قامت باعتقاله القوات القطرية سنة 1963 وبقى فى السجن إلى حدود سنة 1964، بعد أن توفى رفيقه «حمد العطية» فى السجن، أُطلق سراحه، واختار المنفى، فهاجر نحو الكويت، مما اضطر قبيلة «المهاندة» وأهل «الخور» و«الذخيرة» كلهم إلى أن يهاجروا مع ناصر المسند إلى الكويت عام 1964 بعد التضييقات الكبيرة التى يتعرض لها.
ظل «ناصر» يناضل من الكويت، ويحث أتباعه على عدم التراجع عن مطالبهم، مما أقلق راحة النظام القطرى، بما يمثله «ناصر» من وزن فى الشأن القطرى العام. أمام عدم انكسار شوكته، ولإيجاد مصالحة شاملة وراديكالية، خاصة أن شوكة «ناصر» بدأت تقوى، فهو حر طليق بالكويت رغم ما قد يمثله من إحراج للسلطات الكويتية التى من مصلحتها حصول اتفاق بين «ناصر» و«خليفة» حتى لا تبقى فى إحراج بين نفوذ «ناصر» المعارض ونظام «خليفة» الرسمى، بدأ البحث عن طريق يحفظ ماء وجه الجميع، ولا شك فإن الطريق المثلى لمثل هذه العداوات هو طريق المصالحة عن طريق المصاهرة.
لـ«ناصر المسند» فتاة يانعة، جميلة ورقيقة يمكن أن يزوجها حاكم قطر «خليفة» لابنه «حمد»، ستصبح هذه الفتاة مع مرور الوقت المرأة الحاكمة بأمرها فى قطر، والأكثر نفوذاً وتأثيراً فى العالم العربى، امرأة توفرت لها جل الإمكانيات المادية والمعرفية، شديدة الذكاء، عنيدة، محبة للتحدى وطموحة، كل هذه العوامل ستفتح لها طرقاً جديدة.
سترسم سياسة جديدة براجماتية، قائمة أحياناً على النفعية المباشرة وأحياناً أخرى على الانتهازية المقيتة. امرأة لا ترحم أعداءها، تعرف كيف تفتك بهم، تقتنص الفرص فتحولها لبرامج ومشاريع خطيرة.. لإيقاف هذا الإبعاد ولإجراء مصالحة بين ناصر المسند وحاكم قطر، وقع تزويج «موزة» ابنة ناصر المسند بـ«حمد بن خليفة».
فى الأصل، الشيخة موزة كانت ضحية لصفقة مالية وسياسية بين أبيها ناصر المسند والحاكم السابق «خليفة»، فقد كان ناصر المسند من أهم المعارضين للحكم، وتزويج ابنته من ابن الحاكم تم عبر صفقة سياسية تخلى بموجبها المعارض عن معارضته فى مقابل نفوذ من نوع خاص.
لم يكن تزويج «حمد» بـ«موزة المسند» إلا ليشكل انقلاباً فى حياة خاصة، وفى تاريخ المشيخة عامة، كانت صفقة الزواج بين «آل خليفة» و«آل المسند» صفقة سياسية بالدرجة الأولى تهدف إلى وضع حد لطموحات «آل المسند» السياسية وتخفيف الضغوطات من والدها المعارض على نظام حكم خليفة آل ثانى، ولم يكن الشيخ خليفة يتخيل أن ابنة خصمه ناصر المسند يمكن أن تدق المسمار الأخير فى نعشه وتجرده من حكمه فى وضح النهار وتحكم على بقائه منفياً بالخارج.
لم تكن «موزة» أكثر من معادلة لتقريب وجهات النظر والقطع مع المعارضة فى بلد صغير جداً، عدد سكانه يحسب بالآلاف، كانت المعادلة لا تمنحها أكثر من مجرد زوجة ثانية للشيخ الصغير «حمد بن خليفة» الذى ارتبط ببنات عمومته -«حمد» متزوج من ثلاث نساء- وبدل أن تكون «موزة» مجرد رقم فى زوجات «حمد» ومثلما كان الهدف الأساسى من زواجها متمثلاً فى الإنجاب والإكثار من النسل، اختارت «موزة» أن يكون لها رأى آخر غير الذى وقع رسمه.
تتميز «موزة» بذكاء حاد، امرأة عصرية وتسلطية تسعى للحكم ولفرض الرأى. متعطشة للسلطة وللسلطان. لكن مساعى «موزة» وزوجها سوف تصطدم بحقائق التاريخ، خاصة أن المشيخة بتكوينها الحالى كانت خطأ جسيماً تواطؤ فيه النظام البريطانى الذى عمل على تجزئة المنطقة، إضافة إلى أن تاريخ قطر الحديث لم يعرف استقراراً سياسياً حيث مثل التكالب والصراع على الحكم أهم ميزة.
لم تعرف قطر استقراراً بين أبناء نفس العائلة الحاكمة وهذا ما جعل البلاد تغرق فى وحل الدسائس والمؤامرات، تداخلت فيها فضائح أخلاقية ومالية وجنسية وصراعات على النفوذ بين أفراد العائلة الواحدة، وغدر بالمحارم توّجها الحاكم الحالى الشيخ حمد الذى طرد والده العجوز من الحكم واتهمه بالسرقة والاختلاس وتركه يعتاش على الهبات فى السعودية وغيرها من دول الخليج.
لم يكن الشيخ خليفة نفسه يتوقع أن تتطور المصالحة إلى درجة تصبح فيها الصفقة «موزة» هى الحاكم الفعلى فى قطر والعقل المدبر لعملية انقلاب أبيض أطاح بالشيخ الأب «خليفة» بل وأطاح فيما بعد بأولاد زوجها «حمد» من زوجته الأولى مريم بنت محمد آل ثانى.
لم تقتنع الشيخة موزة بأن تكون مجرد زوجة ولى العهد أو أن تعيش على الهامش وسط ثلاث نساء لا يقتسمن معها حلم السيدة الأولى فقط، وإنما يسبقنها فى شرعية السلطة لأبنائهن، وضع موزة كزوجة ثانية بين ثلاث زوجات ليس أبنائها حظ فى الخلافة، كما أنه ليس لها حظ فى أن تكون امرأة التغيير، ما ميز الشيخة موزة أنها كانت الأقرب إلى قلب زوجها وأكثرهن فطنة وحيلة من بين زوجاته، حيث نجحت فى تأليب «حمد» الطامح بخلافة والده وعملت على إيقاظ نار السلطة والنفوذ فيه، وأن يسبق أبناء عمومته الذين بدأت شوكتهم فى التعاظم، حيث تجلى ذلك جيداً فى مجاهرتهم فى المطالبة بالحكم، فحركت فيه غرائز السلطة فهمّ بالإسراع للاستيلاء على الحكم من أبيه، خاصة أنه تناء إلى علمه بأن والده يحضر لدعوة أخيه من الخارج لتسليمه مقاليد السلطة.
لقد اجتمعت العديد من المتناقضات لتصب كلها فى مصلحة الشيخة موزة، سيتحقق هدف زواجها الذى كان من الأساس الاستيلاء على الحكم والثأر لوالدها.
ألم نحرق القائدة البربرية الكاهنة تونس حتى لا ينعم بخيراتها الفاتحون الجدد؟ ألم تحرق عليسة
https://telegram.me/buratha