يواصل سعر العملة الامريكية، الدولار، التراجع مقابل العملات الرئيسية الاخرى في العالم، فيما تواصل اسعار السلع وفي مقدمتها الذهب الارتفاع. ووصل الدولار الى مستوى مئة ين ياباني، الذي لم يهبط اليه منذ منتصف التسعينيات، ووصل اليورو الى ما بعد حاجز الدولار ونصف ولا يتوقع ان يتراجع اليه. ومع استمرار هبوط الدولار وشبه التاكد من دخول الاقتصاد الامريكي مرحلة ركود، تواصل اسعار المعادن الثمينة والسلع عموما الارتفاع. ويبدو ان الاجراء الاخير من جانب البنوك المركزية في الدول الكبرى الغنية بضخ المليارات في السوق لتخفيف ازمة السيولة لم تؤت أؤكلها مع استمرار الانكماش الائتماني العالمي.
ولم يكن وزير الخزانة البريطاني الستير دارلنج اول من خفض توقعات النمو في بلاده من بين نظرائه في الدول الصناعية الرئيسية، وان كان احدثهم. ويبدو من الارقام الاولية للربع الاول من العام الجاري ان ازمة انهيار القطاع العقاري الامريكي، وما صاحبه من كارثة القروض العقارية الرديئة التي كلفت القطاع المصرفي العالمي عشرات المليارات من الخسائر، لم تصل الى مداها بعد. مخاوف متزايدة كل ذلك جعل الاسواق تتحسب لمزيد من الضغوط وسط حذر شديد في عمليات الاقتراض للاستثمار، ما جعل المستثمرين يلجأون للملاذ الامن بعيدا عن الاسهم والعملات. ويعد الذهب، الذي وصل سعر الاوقية (الاونصة) منه الى الف دولار، افضل ملاذ امن للقيمة وان كانت صناديق الاستثمار تضارب ايضا على عقود النفط الاجلة والسلع الزراعية من القمح الى البن. ورغم التوقعات المتفائلة بان الازمة العقارية الامريكية قد لا تنتقل الى اوروبا بنفس حدة انتشار ازمة اسهم شركات التكنولوجيا مطلع القرن، الا ان اسعار العقار في اوروبا بدأت تتراجع وابرز هبوط الان في اسبانيا. كما ان التكهنات بقدرة الاقتصادات الصاعدة كالصين والهند على فك الارتباط مع الاقتصاد الامريكي وبالتالي تخفيف حدة الركود العالمي تبدو مغرقة في التفاؤل. ويبدو الاحتمال الاكثر ترجيحا الان ان تنتقل عدوى التضخم الى تلك الاقتصادات ما يقلل من النمو الحقيقي لاقتصادها ويزيد من ازمة الركود التضخمي في الاقتصادات المتقدمة. وحتى مع تراجع نسبة الاقتصاد الامريكي من الاقتصاد العالمي، وان ظل الاقتصاد الاكبر عالميا، فانه يبقى قاطرة الاقتصاد العالمي. مشكلة امريكا يرى كثير من المحللين ان الازمة في الولايات المتحدة تتجاوز مجرد التصحيح في نهاية دورة اقتصادية من عدة سنوات، وذلك بسبب الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الامريكي. فعجز الحساب الجاري والعجز التجاري وصل الى مستويات خطرة، ولم يعد الدولار يتمتع بسند اقتصادي قوي من مؤشرات الاقتصاد الكلي الامريكي. ولا تبدو السياسة النقدية، مثل خفض سعر الفائدة، كافية لوقف التباطؤ الاقتصادي كما ان الادارة الحالية التي توشك على الرحيل بنهاية العام لا تملك طرح مبادرات جريئة اوسياسات اقتصادية طويلة المدى لوقف التراجع. يقول مساعد وزير الخزانة الامريكي في ادارة ريجان، بول كريج روبرتس: "ستنهار مستويات المعيشة في الولايات المتحدة، التي لم تتحسن منذ سنوات، ما ان يجبر تراجع الدولار الصين على فك ارتباط عملتها به ... أي ان مستويات المعيشة الامريكية تعتمد على استعداد الصين لدعم الاستهلاك الامريكي بابقاء عملتها منخفضة القيمة". اضف الى ذلك ان الامريكيين اصبحوا يعيشون باكثر مما يجنون، ويعوض العالم ذلك بشراء سندات الدين الحكومية الامريكية بمليارات الدولارات واحتفاظ البنوك المركزية حول العالم بمئات مليارات الدولارات المتراجعة القيمة. لكن الى اي مدى يمكن ان يستمر العالم في انقاذ الاقتصاد الامريكي لمجرد انه اقتصاد اكبر من ان يسمح له بالانهيار كي لا ياخذ العالم كله معه الى هاوية اقتصادية سحيقة؟ التصنيف الائتماني حتى الان، وفي المدى القصير، سيواصل العالم اقراض امريكا اكثر من ملياري دولار يوميا عبر اسواق وول ستريت كي لا ينهار الطلب الامريكي ويفقد المصدرون سوقا ضخمة. ولا يوجد نقص في الاموال، وخذ على سبيل المثال فوائض عائدات النفط من الاسعار التي تجاوزت 110 دولار للبرميل ـ خاصة لدى دول الخليج. كما ان الدول التي تراكم فوائض تجارية كالصين وروسيا وغيرها لم تغير بعد سياساتها من ربط عملاتها بالدولار او الاحتفاظ بقدر كبير من احتياطياتها من العملة الاجنبية بالدولار. وتظل امريكا، رغم كل ما سبق، الجهة الافضل جذبا للاستثمارات في العالم. انما يمكن ان يتغير ذلك في حال خفض التصنيف الائتماني للدين الامريكي، وهو الحائز على اعلى درجات التصنيف لاعتماده على الثقة في استعداد امريكا للتسديد وليس قدرتها على التسديد. لكن لا يمكن الاستناد الى الثقة على طول الخط وتجاهل المخاطر، خاصة مع الكلفة الهائلة للحروب الامريكية في الخارج من افغانستان الى العراق دون نتائج ملموسة لها. صحيح ان هناك من الاقتصاديين من ينصح بان الحروب الخارجية، بما تتضمنه من انفاق عسكري، يمكن ان تكون عامل حفز للنشاط الاقتصادي خاصة اذا كانت في مناطق غنية بمئات المليارات من العائدات النفطية. لكن كثيرين يشككون مثلا في ان حربا امريكية على ايران قد تكون "القشة التي تقصم ظهر البعير" الاقتصادي الامريكي وتؤدي الى دخول العالم في ازمة تشبه ازمة الثلاثينيات من القرن الماضي. يقول بول كريج روبرتس: "ربما تشير استقالة الادميرال ويليام فالون، قائد القوات الامريكية في الشرق الاوسط، الى هجوم نظام بوش على ايران. وكان فالون قال انه لن يكون مسؤولا عن هجوم امريكي على ايران. وبما انه لا يوجد ما يبرر استقالة فالون، فليس من الشطط القول ان بوش ازال عقبة من امام الحرب ضد ايران". والخطر هنا ليس التكلفة، التي قد تتوفر عبر استثمارات باموال نفطية وعقود مبيعات عسكرية وغير عسكرية، بل تبعات تلك الحرب على مؤشرات الاقتصاد الكلي الامريكي واحتمالات خفض التصنيف الائتماني لسندات الخزانة.
https://telegram.me/buratha