د. ميثم العيبي اسماعيل*||
من أحد جوانبه، يُحيلُنا تفسير قرار رفع سعر صرف الدولار الاميركي أمام الدينار العراقي، الى ما يعرف بنموذج (مونرو) الذي يُركز عليه تشومسكي في رؤيته للشرق الاوسط المعاصر، (هذا الاسم يذكرني برفع الهواء لفستان الرائعة مارلين مونرو). وفرضية تشومسكي التي يُدافع عنها في كتابه (أوهام الشرق الاوسط) تقوم على منطق الهيمنة الاميركية على المنطقة باعتبارها منطقة نفوذ بالقوة، إذ يذكر تشومسكي مثلا، في إحدى زوايا كتابه، بأن وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت صرحت في زمن ادارة كلينتون؛ حين أشارت في حديثها للمصالح الامريكية في الشرق الاوسط: "إننا سنتصرف جماعيا حينما نستطيع، ونتصرف أحاديا إذا إستلزم الامر، إذ أننا لا نعترف بحدود أو عراقيل، أو حتى قانون دولي أو أمم متحدة".
وفرضيتنا حول تخفيض قيمة الدينار أمام الدولار؛ من زاوية الاقتصاد السياسي، تدور حول منطق الهيمنة الاقتصادية الاميركية على دول الشرق الاوسط، وذلك ضمن أدوات اقتصادية متعددة كالتحكم في مصادر الطاقة وأسعار النفط وأسعار العملات، وتعديلات معدلات التبادل التجاري في غير صالح بعض الدول، واستخدام أساليب الافقار والحصار والعقوبات، وتدوير عوائد النفط الى الخارج...
لقد حملت "الورقة البيضاء"؛ التي عُرضت بالامس القريب، مقدمات واضحة للاجراءات المطروحة والمزمع تنفيذها اليوم، بدعوى الاصلاح الاقتصادي وفقا للمنطق الليبرالي، ومن تلك المقدمات التركيز على مخاطر الدولار الرخيص وضرورات تخفيض قيمة الدينار بدعوى التنافسية وإستدامة الموازنة، كما ركزت الحكومة ومستشاروها وبعض المختصين على أن سياسات البنك المركزي العراقي طوال السنوات السابقة لم تخدم موقف الميزان التجاري العراقي مقابل تعزيزها لموازين مدفوعات دول الجوار، التي أصبحت مصدرة صافية للبلد، مستفيدة من تراجع الناتج المحلي العراقي غير النفطي وثغرات قوانين الكمارك والضرائب وضعف سيادة القانون...
فبالعودة الى بدايات تشكيل حكومة الكاظمي وفريقه؛ بعد إختطاف ثورة تشرين 2019، فان من البداهة القول أن مجيء هذه الثلة الى قمة مجلس الوزراء جاء في شق واضح منه كمعادل لتحجيم النفوذ الايراني ومواجهة تنامي قوى اللادولة، على إعتبار ضرورة خلق "رجال شرطة محليين" على حد تعبير تشومسكي، متمثلين في حالتنا برجل المخابرات الكاظمي وفريقه، وذلك من قبل "شرطي العالم"، أميركا.
إن قرار تغيير سعر صرف الدولار لا يمكن أن يُقرأ بعيدا عن مطبخ سياسة الكاظمي وفريقه الاستشاري المحلي والدولي وأدواته المنفذة التي تم اختيارها لإدارة البنك المركزي ووزارة المالية، والتي تم الترويج لها على أنها أضلاع "المثلث الذهبي" الرئيسة حاملة سارية الاصلاح المالي والنقدي... فاجراءات تخفيض المخصصات ورفع معدلات الضريبة وزيادة أسعار الوقود وتغيير سعر الصرف بنسبة مرتفعة؛ وان كانت تهدف في المقام الاول الى سد عجز الموازنة ومعالجة مشكلات الاستدامة المالية وعدم تحمل الدين، فانها بطبيعة الحال تستهدف تحسين اوضاع الميزان التجاري العراقي الذي كان لصالح دول الجوار (تركيا، والسعودية والكويت والاردن وايران...) طيلة السنوات الماضية.
من وجهة نظر الاقتصاد السياسي، فان كل دول الجوار يُمكن أن تتأثر بقرار تغيير سعر الصرف، لغير صالحها، لكن دول مثل السعودية والكويت لديها الكثير من مصدات الحماية بحيث ان اضرارها ستكون الاقل، فهي دول لديها حصص نفطية مرتفعة في اوبك، كما انها أمنت اقتصاداتها بصناديق سيادية تحوطية مضادة للازمات، ولا يختلف الحال بالنسبة لتركيا البلد الصاعد الذي لديه تنوع اقتصادي كبير، في حين ان قرار التلاعب بعدادات سعر الصرف يمكن أن يكون أكثر ضررا على الجارة ايران، التي أُنهكت من قبل الادارات الاميركية المتعاقبة بحصارات وعقوبات، تجعل من قرار رفع قيمة الدولار تشديدا آخر في مجال العقوبات التي طالما استطاعت ايران الافلات منها، ويقود الى جملة آثار سلبية متوقعة عليها سواء من خلال تحريك ميزان المدفوعات في غير صالح الاقتصاد الايراني، فضلا عن الاثار السلبية المتوقعة لتفعيل الضرائب الكمركية على تراجع الصادرات الايرانية للعراق، والمدفوع ايضا بتوقعات تراجع الطلب الكلي والركود التضخمي في الاقتصاد العراقي نتيجة فرض ضرائب متعددة على الدخول وقطع نسب من مخصصات الرواتب.
نقطة الضعف في مثل هذا التحليل تنطلق من التساؤل حول مستقبل حكومة الكاظمي والتناقض في دعمها المفترض من قبل الادارة الاميركية، واحتماليات فشل مشروعها الانتخابي القادم، لجهة أنها سقطت في فخ تصديها لاصلاحات اقتصادية ذات نتائج إيجابية غير محسومة في الأجل الطويلة والتي تُعول على تحسين تنافسية الاقتصاد العراقي، وبين نتائج سلبية مؤكدة في الاجل القصير وهي تواجه قطع الرواتب ورفع الاسعار وما يسببه من خفض للقوة الشرائية النقود وهو أمر لن يغفره الشارع العراقي لها، ما يمثل ذخيرة حية سلمتها هذه الحكومة للناخبين الذين سيقومون باستخدامها ضدها ايام الانتخابات للاطاحة بها، ما يمكن ان تفرح به معظم الاحزاب السياسية المناؤة لحكومة الكاظمي وفريقه... التي تتفرج الآن بأريحية لهذا المأزق.
ولعل الاجابة عن هذا التناقض تتطلب العودة الى نقطة البداية لهذه المقال، المتعلقة بنموذج "مونرو"، وهو منطق الهيمنة الاقتصادية الاميركية الذي لا يتعلق بمصالح دول الشرق الاوسط او شعوبها، بقدر تعلقه بالمصالح العليا الاميركية، وهذا المبدأ ليس غريبا على السياسة الاميركية، فقد كانت أميركا في التسعينات مثلا، تساهم في محاصرة الشعب العراقي وتجويعه من خلال فرض العقوبات، مقابل دعمها لنظام صدام وإستمراره، حتى أن مادلين اولبرايت حين سُألت عن إحساسها ازاء قتل نصف مليون طفل عراقي تحت وطاة العقوبات، اجابت "انه كان اختيارا صعبا، الا اننا نعتقد بان الثمن كان يستحق".
فمن هو الكاظمي وفريقه مثلا، حتى لا يتم الاطاحة بهم، مقابل إضعاف الاقتصاد العراقي وإستمرار هشاشته، أو اعتباره مجرد عصا لضرب اقتصادات دول الجوار المارقة وضعضعتها، والاطاحة به وفريقه لاحقا، أو منحه بأحسن الأحوال بضعة مقاعد في الانتخابات القادمة، وضمه الى جوقة الساسة العملاء لدور الجوار والخارج، واستمرار النظام السياسي الهش والممزق طائفيا وعرقيا وقوميا...
*باحث اقتصادي
https://telegram.me/buratha