هو الإمام علي الهادي (ع)
ابوه: الإمام محمد الجواد (ع)
أمه: سمانة
ولادته عليه السلام: 15 ذي الحجة سنة 214 للهجرة
محل الولادة: صريا (من ضواحي المدينة)
تاريخ الاستشهاد: الثالث من رجب سنة 254 للهجرة
محل الاستشهاد: سامرّاء
محل الدفن: سامرّاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
كانت هذه الآية الكريمة نبراساً لأئمة الهدى ومصابيح الأمّة في سعيهم وعملهم، فقد عملوا بها وعلّموا الناس، وأرشدوهم لما فيه هدايتهم، وما فيه رضى الله ورسوله، وبيّنوا لهم شرف العمل وقيمته من خلال الارتباط بالأرض، والقيام بزراعتها وإصلاحها، كما عملوا بأيديهم في غرس الأشجار، فكانوا نموذجاً للمزارعين العاملين في رعاية الأرض والاستفادة من خيراتها. وكانت المزارع التي أنشاها الإمام الكاظم عليه السلام خير مثال على ذلك. فقد أنشأ عدّة مزارع منها مزرعة «صريا» بالقرب من المدينة المنوّرة، وقد تعهّدها بعده الأئمة الأطهار من ولده عليهم السلام، وقد أحب الإمام الجواد هذه المزرعة حبّاً جمّاً، وقضى فيها معظم أوقاته عاملاً ومزارعاً ومرشداً، وخصّص فيها لزوجته الثانية «سمانة» منزلاً أقامت فيه، وتحوّلت «صريا» بفضل جهوده إلى ضيعة يتردّد عليها محبّو الإمام وأنصاره، وفي هذه المزرعة ولد الهادي عليه السلام وأسموه عليّاً.
أمضى عليّ الهادي طفولته بهدوء إلى جوار أمّه وأبيه، وبين الفلاّحين العاملين في المزرعة، وفي أحضان الطّبيعة أطلق بواكير تأمّلاته في عظمة الخالق. لكنّ الأيام الهادئة لم تطل، فقد استقدم أبوه إلى بغداد بأمر من المعتصم العباسيّ. وغادر «صريا» مخلّفاً فيها ولده الهادي وأمّه سمانة، وكانت هذه الرحلة إلى بغداد آخر عهده بالمزرعة ومن فيها. فقد استشهد عليه السلام ودفن في الكاظميّة قرب بغداد، وكان قبل سفره قد أوصى بالإمامة لابنه الهادي عليهما السلام، وكان للهادي من العمر ست سنواتٍ.
الإمامة
كلّف المعتصم - الحاكم العباسيّ - رجلاً يثق به بالقيام على تعليم الإمام الهادي، بغية الابتعاد به عن خطّ أهل البيت، وتقريبه من خطّ العباّسيين، وحثّه على ةإطاعة الحكّام والاعتراف بشرعيّتهم، غير أنّه اصطدم بما يتمتّع به الامام من ذكاء، وما رضعه من معرفةٍ امتاز بها أهل هذا البيت الكريم وتوارثوها، خلفاً عن سلفٍ، ورغم توفّر هذا الرجل على تعليم الإمام فقد فوجئ يوماً - إذ طلب منه إسماعه بعض ما علّمه إيّاه - بجواب الإمام قائلاً: بل سلني عن آياتٍ من القرآن الكريم أتلها عليك. وقد نسي هذا الرجل أو تناسى قول رسول ربّ العالمين، في حديث قدسيٍّ ردّده في مناسباتٍ كثيرةٍ:
«إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». ونسي أو تناسى أنّ أهل هذا البيت حملوا عن رسول الله علوم النبيين، وعقلوا عنه أحكام الدنيا والدين.
بقي الإمام الهادي في المدينة يمارس مهمّات الإمامة بهدوءٍ لم يخل من رقابة شديدة فرضت عليه من قبل السلطة، حتى جاوز العشرين من عمره، وقد اتّسعت شهرته، وصار القريب والبعيد يرجعون إليه في أمور دينهم، ويستعينون به على ما يعترضهم من مشاكل في أمور دنياهم.
فرن كبير
مات المعتصم العباسي، وخلفه في الحكم هارون بن محمّد، الملقّب بالواثق، وكان الواثق رجل لهو ومجون وطرب، انصرف إليها وترك أمور الحكم يصرّفها وزيره «الزّيّات»، وكان الزّيّات رجلاً قاسياً، فتح السجون لخصوم الواثق، وأنشأ في أحدها فرناً كبيراً جهّزه بمختلف آلات ووسائل التعذيب، وكان من ضحايا هذا السجن أخو الواثق نفسه، ويلقّب بالمتوكّل، وقد لقي المتوكّل الكثير من صنوف التعذيب على يدي «الزّيّات» نظراً للخلاف المستحكم بين الأخوين، ولتنافسهما الشديد على الحكم.
لم يطل حكم الواثق، فقد مات بعد حوالي ست سنواتٍ، وخلفه أخوه المتوكّل، الذي افتتح عهده بالانتقام من وزير أخيه، إذ رماه في الفرن الذي أعدّه الوزير نفسه، وكانت نهاية هذا الوزير الجبّار مصداقاً للقول: «من حفر بئراً لأخيه وقع فيها ».
الحقد على الشهداء كما على الأحياء
وبعد أن استقرّ الأمر للمتوكّل، وجّه سهام حقده نحو آل محمد سلام الله عليهم، فقد كان يكنّ لهم كرهاً شديداً، فاق فيه من سبقه من الحكّام، وقد بلغ به التعصب والحقد أن أسفر عن عدائه فأمر بهدم قبر الحسين سيّد الشهداء عليه السلام، وسوّى الضريح الشريف بالتراب، وأمر بحرث الأرض وزرعها لتضيع معالمه، كما قتل عدداً كبيراً من زوّاره، لأنّ زيارة الشّهداء تؤجّج نار الثورة والغضب ضدّ الطغيان والطغاة في كلّ عصر، وتلهب المشاعر ضد الظلم والظالمين، ورغم كل تلك القسوة، بقيت قوافل الزّوار تتوافد إلى هذا المكان الشريف دون انقطاعٍ (ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون).
قال أحد الشّعراء مستنكراً جريمة المتوكّل:
تالله إن كانت أميّة قد أتت *** قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتته بنو أبيه بمثله *** فغدا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على ألاّ يكونوا شاركوا *** في قتله فتتبعوه رميماً
يشبّه الشاعر ما فعله الأمويّون بحقّ أهل البيت من قتلٍ وسبيٍ وتشريد، بما قام به العباسيون بعدهم، من هدم قبور من استشهد من الأئمة، وإلحاق الأذى بمن كان منهم حيّاً، رغم قرابتهم، وادّعائهم محبّتهم.
التفت المتوكل بعدها إلى الأحياء، فقد كان ما يصل إليه عن التفاف الناس حول الإمام الهادي يشغل تفكيره ويثير غضبه، لكنّه لم يكن يملك عليه حجةٍ يتذرّع بها، أو ذنباً يأخذه به، فرأى أن يلجأ إلى الأسلوب القديم الذي اتّبعه أسلافه، وهو أن يستقدم الإمام إليه، مدّعياً محبّته، والرّغبة في القرب منه، فكتب إليه كتاباً ملأه بالدّجل والخداع وممّا جاء فيه: أميرالمؤمنين مشتاق إليك . . فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك . . على مهل وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، كيف شئت . . فاستخر الله حتى توافي أميرالمؤمنين، فما أحد من إخوانه وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منك منزلةً عنده . . والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وأوفد المتوكل إلى الإمام عليه السلام أحد رجاله ويدعى يحيى بن هرثمة، فحمّله كتابه إليه، وأمره بتفتيش دار الإمام تفتيشاً دقيقاً، لأنّه علم أنّ الإمام يجمع السلاح والمال والرجال للثورة عليه. ولمّا دخل المدينة أحسّ الناس بالشرّ، وخافوا على الإمام عليه السلام، لأنّهم يعرفون مشاعر المتوكّل نحو أهل البيت (ع)، لكنّ ابن هرثمة طمأن الناس بأنّه لم يؤمر فيه بسوءٍ ولا مكروهٍ، لكنّه مع هذا دخل البيت وفتّشه، فلم يعثر فيه إلا على مصاحف وأدعيةٍ وكتبٍ علميّة.
أما الإمام عليه السلام فقد كان يعلم أنّ الأسلوب الهادئ الليّن، الذي خاطبه به المتوكّل في كتابه إليه، ليس إلا نفاقاً يخفي تحته ما يعلمه الجميع من شدّة عداوة المتوكّل لعليّ وآل علي، وكلّ من يتّصل بهم بنسب أو سبب، كما يعلم أيضاً أن المتوكّل لا يمكن أن يدعه آمناً في مدينة جدّه (ص)، ولابدّ من الاستجابة لطلبه، وهكذا كان، وتوجّه الإمام إلى بغداد مع مبعوث المتوكّل.
في الطريق إلى سامرّاء
يروي ابن هرثمة أنّهم بينما كانوا في الطريق، والسماء صاحية، والشمس طالعة، إذ وضع الإمام عليه ما يقيه المطر، فعجب ابن هرثمة لفعل الإمام، فلم تكن إلاّ هنيهة حتى جاءت سحابة، واكفهرّ الجوّ، وسقط مطر غزير. فالتفت الإمام إلى ابن هرثمة قائلاً: أنا أعلم أنّك قد أنكرت ما رأيت، وتوهّمت أنّي قد علمت من الأمر ما لا تعلمه، وليس ذلك كما ظننت؛ ولكنّي نشأت بالبادية، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فلما أصبحت، هبّت ريح شممت منها رائحة المطر، فتأهبت لذلك، وكان الأمر كما رأيت.
إنّ لأهل البيت عشرات الكرامات، وليس ذلك بغريب على من اصطفاهم الله من عباده، وجعلهم حججه على خلقه، والأدلاّء على طاعته، وهم من نذروا أنفسهم لله، واستجابوا لأمره ونهيه، وإنّ في سيرتهم، ومواقفهم من الظلم والظالمين، وتضحياتهم في سبيل الله وخير الناس، خير دليل على عظمتهم، عليهم رضوان الله وسلامه.
ويتابع يحيى ابن هرثمة روايته عن رحلة الإمام إلى سامرّاء، فيتحدّث عن وصولهم إلى بغداد (وكانت تدعى دار السلام)، فخرج الناس لاستقبالهم، يتقدّمهم إسحاق بن إبراهيم الطاهري، والي بغداد، الذي خاطب ابن هرثمة قائلاً: يا يحيى، إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله (ص)، والمتوكّل من تعلم، فإن حرّضته على قتله كان رسول الله خصمك، فأجابه يحيى: والله ما وقفت منه إلا على كل أمرٍ جميلٍ.
يقول ابن هرثمة: صرنا إلى سامرّاء، وبدأت بوصيف التّركيّ، وكنت من أصحابه، فقال لي: «والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة، لا يكون المطالب بها غيري.
فعجبت من توافقهما في الرّاي؛ ولمّا دخلت على المتوكّل سألني عنه. فأخبرته بحسن سيرته، وسلامة طريقه، وورعه وزهده؛ وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه لمّا وردت المدينة، وضجّوا بأجمعهم، ولم يهدأوا إلا بعد أن حلفت لهم بأنّ الأمير لا يريد به سوءاً . . فأكرمه المتوكّل، وأنزله في دارٍ قد أعدّها له.
ويروى أنّ المتوكّل لم يأذن للإمام عليه السلام بالدخول عليه، في اليوم الذي وصل به إلى سامرّاء، بل أنزله في خانٍ يعرف بخان الصّعاليك، فأقام فيه يومه، وفي اليوم الثاني أذن له بالدخول عليه، ثم أفرد له داراً ليسكن فيها.
الإمام في سامرّاء
خلال وجود الإمام في سامرّاء، كان المتوكّل يتظاهر بتعظيمه وإكرامه، لكنّه كان يراقب جميع تحرّكاته وتصرّفاته. وكان أنصار الإمام يتّصلون به في الغالب عن طريق الكتابة والمراسلة. وكان المتوكّل يستدعيه إلى مجلسه بين الحين والآخر. وكان كثيراً ما يأمر رجاله بالإغارة على دار الإمام وتفتيشها، بحثاً عن المال والسلاح، فيقابلهم الإمام عليه السلام بهدوءٍ وثقةٍ، ويساعدهم في التفتيش أحياناً.
ويروى في هذا المقام أن أحد رجال المتوكّل ويدعى «البطحانيّ»، وكان يضمر للإمام عداوةً شديدةً، سعى بالإمام إلى المتوكل قائلاً: إنّ عنده أموالاً وسلاحاً، فأمر المتوكل حاجبه واسمه سعيد بالهجوم على الدار ليلاً، فقصد الحاجب دار الإمام مع رجاله، وصعدوا على سطحها بواسطة سلّم أحضروه معهم، لكنّهم لم يروا طريقهم في الظلام، فنادى الإمام الحاجب قائلاً: يا سعيد، مكانك حتّى يأتوك بشمعةٍ، ثم أتوا له بشمعةٍ فنزل مع رجاله، ووجد الإمام مرتدياً جبّةً وقلنسوةً من صوفٍ، وهو متوجّه إلى القبلة للصلاة،
فقال لسعيدٍ: دونك البيوت، (أي الغرف أمامك ففتّشها)، وبعد التّفتيش لم يجدوا ما أتوا في طلبه من مال وسلاح، سوى بعض الكتب، فاعتذر سعيد من الإمام بحجة أنّه مأمور، فأجابه عليه السلام: (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون).
وفي مرّة أخرى، أحضر الإمام إلى مجلس المتوكل، وكان يجلس إلى مائدةٍ وفي يده كأس من الشراب، فأجلسه إلى جانبه وقدّم له الكأس التي في يده، لكنّه طلب إعفاءه فأعفاه، غير أنّه طلب أن ينشده شعراً يستحسنه، فاعتذر ثانيةً، لكنّه ألحّ عليه ولم يقبل له عذراً، فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عزٍّ عن معاقلهم *** فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا *** أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعّمةً *** من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساء لهم *** تلك الوجوه عليها الدّود ينتقل
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
وطالما عمروا دوراً لتحضنهم *** ففارقوا الدّور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا *** فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطّلةً *** وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا
يصف اللإمام في هذه الأبيات مظاهر القوّة والعظمة لدى الحكّام، ويصف قصورهم وحياتهم المترفة، ثم يصور زوال كلّ هذه النعم ونهاية أصحابها إلى القبور، تعدو عليهم الدّيدان فتأكل وجوههم وأعضاءهم، بعد أن كانوا يأكلون الناس وأموالهم. وواضح أنّ الإمام عليه السلام يرمي إلى عظة المتوكّل ونصحه، وردعه عن مجونه وآثامه.
أمّا المتوكّل الذي لم يكن يتوقّع من الإمام أن ينشده شعراً من هذا النوع، فقد بكى بكاءً شديداً، وأمر برفع الشراب من مجلسه، واعتذر من الإمام، وودّعه مكرّماً.
لقد حاول المتوكّل إذلال الإمام أمام حاشيته، فقدّم له الشراب وهو يعلم أنّ الإمام يرى أنّ شارب الخمر كعابد الوثن، ولمّا أبى، طلب أن ينشده شعراً في وصف الخمر والجواري، ولم يكن يتوقّع أن يصفعه الإمام عليه السلام هذه الصفعة، أو أن يجرؤ على صبّ هذه الصّواعق عليه، لكنّه أمام هذا الوصف الرّائع للجبابرة في حياتهم وبعد موتهم، ولتلك الوجوه الناعمة الطريّة يعبث فيها الدود، لم يستطع إلاّ التّأثر بهذه الحقائق الواضحة، والبكاء من شدّة الخوف والجزع ممّا ينتظره غير بعيدٍ.
أعماله ومآثره عليه السلام
انصرف الإمام الهادي عليه السلام إلى خدمة الإسلام الحنيف، عن طريق الدفاع عن أصوله ونشر فروعه، فناظر المشكّكين وتصدّى للمحرفين المنحرفين، بالإجابة عن أسئلتهم بالأسلوب الهادئ الرّصين، المدعوم بالحجّة والمنطق، وكانت الرّسائل تصله من مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ، ويتلقّى الأموال الشرعيّة فيصرفها في وجوهها وعلى المصالح الإسلامية العامّة.
ومن مواقفه المشهودة، موقفه من الغلوّ والغلاة، والذي اتّسم بالصّلابة والصراحة، وقد شهّر بهم واعتبرهم من المنحرفين عن الخطّ الرّساليّ. الذي دافع عنه الأئمة عليهم السلام بكلّ قوّةٍ.
قال لشخص أفرط في الثّناء عليه ما معناه: إنّ كثرة التّملّق تثير الظنّ والريبة، فإذا أحببت أخاك فلا تتملّقه، بل أحسن إليه عملاً ونيّةً.
ومن أقواله عليه السلام: من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين . . من كان على بيّنة من ربّه هانت عليه مصائب الدنيا . . من جمع لك ودّه ورأيه فاجمع له طاعتك، ومن هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه، ومن رضي عن نفسه كثر السّاخطون عليه.
وقال عليه السلام: المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان. (الجازع: نقيض الصابر). وقال أيضاً: الجهل والبخل أذمّ الأخلاق، والطمع سجيّة سيئة. والهزء فكاهة السّفهاء وصناعة الجهّال.
الشهادة
ذكرنا أنّ الإمام الهادي عليه السلام أقام في المدينة مع أبيه الإمام الجواد في بداية حياته، وحين بلغ السادسة من العمر توفّي أبوه، وبقى في المدينة حتى بلغ العشرين من عمره، وكان ذلك في أيّام المعتصم العباسيّ، وذكرنا أيضاً أنّ المتوكّل استقدمه إلى سامراء، وبقي فيها طيلة حكمه حتى قتل المتوكّل بيد ابنه، وخلفه من بعده المنتصر والمستعين بالله والمعتزّ، ويبدو من تاريخ حياته عليه السلام، أنّ السنين السبع التي قضاها في أيّام الحكّام الثلاثة المذكورين، كانت فترةً هادئةً، لم يشهد فيها من الوشايات والمضايقات ما شهده أيّام المتوكل، وقد اكتفى الحكّام الثلاثة بفرض الإقامة الجبريّة عليه في سامرّاء، والدليل على ذلك هو بقاؤه في سامرّاء، في حين أنّه كان دائماً يحنّ إلى مدينة جدّه المصطفى (ص) ولا يرضى عنها بديلاً.
والهدوء الذي نعم به في هذه الفترة، لا يعود إلى طيبة أولئك الحكّام، إنّما سببه أنّ سلطة الحكّام العباسيّين كانت قد تقلّصت وضعفت، وصار الحاكم لا يملك غير الاسم فقط، بينما غدت السلطة في أيدي القوّاد الأتراك وغيرهم، فهم الذين كانوا يأمرون وينهون، ويعيّنون ويعزلون، حتى أنّهم إذا غضبوا من الحاكم نفسه، عزلوه أو قتلوه، وعيّنوا غيره؛ كما حدث للمستعين بالله، حيث عزلوه وعيّنوا مكانه المعتزّ بعد أن كان معتقلاً.
وفي عهد المعتزّ توفّي الإمام الهادي عليه السلام، متأثّراً بالسمّ الذي يقال إنّ المعتزّ دسّه له في طعامه، وكالعادة أصدر القضاة وكبار رجالات القصر شهاداتهم بأنّ الإمام عليه السلام مات ميتةً طبيعيّةً. وعند انتشار خبر وفاته اجتمع في داره نفر كبير من الهاشميّين والعباسيّين، كما حرص رجال المعتزّ أنفسهم على حضور مأتمه والسّير في جنازته. وقد صلّى على جثمانه الطاهر ابنه أبو محمد الحسن العسكري عليهما السلام، ودفن في بيته في سامراء سنة 254 للهجرة.
جعفر الكذّاب
ترك الإمام الهادي عليه السلام أربعة أبناءٍ وبنتاً واحدة. أكبرهم الإمام العسكري عليه السلام، وقد عرف عن أبنائه الآخرين الصّلاح والتّقوى والذّكر الطيب، غير واحدٍ منهم وهو جعفر. كان جعفر سيّئ السّمعة والسيرة، يثير الفتن، وينسج الأكاذيب. حتى سمّي بجعفر الكذّاب. ويذكّرنا جعفر بابن نبي الله نوح عليه السلام، فقد كان أيضاً ولداً غير صالح، وكانت نهاية جعفر إلى الإهمال، وانصراف الناس عنه، رغم أنّه ابن إمام وأخو إمام.
ومن هنا يتبيّن أنّ العمل الصّالح والتقوى هما مقياس القرب إلى الله تعالى والبعد عنه سبحانه، وأنّ النّسب وإن كان فرعاً من أصلٍ طيّبٍ طاهرٍ، فلن يفيد المرء إذا كانت سيرته غير ذلك.
وإنّ محبّتنا واحترامنا لأهل البيت عليهم السلام، واتّخاذنا إيّاهم قدوةً ومثالاً، إنّما ترجع إلى سيرتهم ومواقفهم العظيمة، وما عرف عنهم من صلاح وتقوى وإيمان لم يكن لغيرهم من العالمين، وكانوا بالحقّ فروعاً طيّبةً من شجرة طيّبة مباركةٍ، طهّرها ربّ العالمين بقوله في محكم كتابه: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت، ويطهركم تطهيراً). وصدق الله العظيم.
2/5/140503
https://telegram.me/buratha