ولد الإمام السجاد (عليه السلام) بالمدينة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة. عاش مع جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) سنتين، ومع عمّه الحسن (عليه السلام) عشر سنين، ومع أبيه الحسين (عليه السلام) إحدى عشر سنة ، وبعد أبيه أربعاً وثلاثين سنة، وتوفي بالمدينة سنة خمس وتسعين للهجرة، وله يومئذٍ سبع وخمسون سنة.
عبادته (عليه السلام)
اشتهر الإمام زين العابدين (عليه السلام) بكثرة عبادته، وهو امر تسالم عليه القاصي والداني والمخالف والمؤالف، بل أنّ اشهر ألقابه المتداولة بين الناس هي السجّاد أي كثير السجود وزين العابدين وسيّد الساجدين. وكان يستغرق أكثر ساعات ليله ونهاره بالصلاة والسجود والدعاء وتلاوة القرآن، وقد كانت تظهر آثار عبادته على ما حوله من المخلوقات فتسبّح معه عندما يُسبّح، فعن سعيد بن المسيّب قال: كان الناس لا يخرجون من مكّة حتى يخرج علي بن الحسين. فخرج وخرجتُ معه فنزل في بعض المنازل فصلّى ركعتين وسبّح في سجوده فلم يبق شجر ولا مدر إلاّ سبّحوا معه، ففزعتُ منه فرفع رأسه فقال: "يا سعيد أفزعت؟" قلت: نعم يابن رسول الله. قال: "هذا التسبيح الاعظم".
ومما جاء في شدّة عبادته ماروي عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) شديد الاجتهاد في العبادة، نهاره صائم وليله قائم. فأضر ذلك بجسمه، فقلت له: يا أبه كم هذا الدؤب؟ فقال له: "أتحبب إلى ربّي لعلّه يزلفني". وحجّ (عليه السلام) ماشياً فسار في عشرين يوماً من المدينة إلى مكة.
وكان أهله يشفقون عليه من الهلاك لشدّة عبادته، فقد روي أن فاطمة بنت علي بن ابي طالب (عليهم السلام) ذهبت إلى جابر بن عبد الله، فقالت له: يا صاحب رسول الله إنّ لنا عليكم حقوقاً، ومن حقّنا عليكم إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكّروه الله، وتدعوه إلى البُقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقيّة أبيه الحسين قد انخرم أنفه ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه، أذاب نفسه في العبادة.
فأتى جابر إلى بابه واستأذن، فلمّا دخل عليه وجده في محرابه قد انضته العبادة، فنهض علي فسأله عن حاله سؤالاً حفيّاً ثم أجلسه بجنبه، ثم أقبل جابر يقول: يا بن رسول الله أما علمت أن الله إنما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟! فقال علي بن الحسين: "يا صاحب رسول الله أما علمت أنّ جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فلم يدع الاجتهاد له، وتعبّد بأبي هو واُمّي حتى انتفخ الساق وورم القدم. وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً".
مكارم أخلاقه
إنّ الأنبياء والأوصياء هم المثل الأعلى في الخُلق الرفيع والمصداق الأكمل للقيم الأخلاقية، ولا تجد أحداً تقدّم على هذه القمم الشامخة ولو في خصلة واحدة؛ لأنهم اُصول هذه الأخلاق وهم القدوة فيها ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. والامام السجّاد واحد من هذه السلسلة الذهبية التي جعلها الله عزّ وجلّ حجّة على خلقه.
فمِمّا روي في حُسن خُلقه أنّه (عليه السلام) دعا مملوكه مرّتين فلم يجبه، فلمّا أجابه في الثالثة قال له: يابُني أما سمعت صوتي؟ قال: بلى. قال: فمالك لم تجبني؟ قال: أمنتك. قال: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني.
وممّا روي في عفوه أنّ جارية له (عليه السلام) كانت تسكب الماء عليه وهو يتوضّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه، فرفع علي بن الحسين (عليه السلام) رأسه إليها فقالت الجارية: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ فقال لها: قد كظمت غيظي. قال: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال لها: قد عفى الله عنك، قالت: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال: اذهبي فأنت حرّة.
وممّا روي في تواضعه وحبّه للمساكين أنّه مرّ على المجذومين وهو راكب حماره وهم يتغدّون، فدعوه إلى الغداء فقال: أما إنّي لولا أنّي صائم لفعلت. فلمّا صار إلى منزله أمر بطعام فصُنع، وأمر أن يتنوَّقوا فيه، ثم دعاهم فتغدّوا عنده وتغدّى معهم.
وممّا روي في مساعدته للفقراء والمحتاجين أنّه كان بالمدينة كذا وكذا أهل بيت يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه لا يدرون من اين يأتيهم. فلما مات علي بن الحسين (عليه السلام) فقدوا ذلك.
وممّا روي في قضاءه حوائج الناس أنّ زيد بن اُسامة بن زيد بكى عندما حضرته الوفاة، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): ما يبكيك؟ قال: يبكيني أنّ عليّ خمسة عشر الف دينار ولم أترك لها وفاء. فقال له (عليه السلام): لا تبك فهي عليّ وأنت بريء منها، فقضاها عنه.
وممّا روي عنه في صدقة السرّ أنّه كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به. قال أبو حمزة الثمالي: كان (عليه السلام) يقول: إنّ صدقة السّر تطفىء غضب الربّ.
وممّا روي في برّه لاُمّه: قيل له: إنّك أبرّ الناس ولا تأكل مع اُمّك في قصعة وهي تريد ذلك؟ فقال (عليه السلام): أكره أن تسبق يدي إلى ماسبقت إليه عينها فأكون عاقاً لها. فكان بعد ذلك يغطي الغضارة بطبق ويدخل يده من تحت الطبق ويأكل.
وممّا روي في صبره أنّه (عليه السلام) سمع واعية في بيته وعنده جماعة، فنهض إلى منزله ثم رجع إلى مجلسه فقيل له: أمن حدث كانت الواعية؟ قال: نعم. فعزّوه وتعجبّوا من صبره. فقال: إنّا أهل بيت نطيع الله عزّ وجلّ فيما نحبّ ونحمده فيما نكره.
وممّا روي في زهده ما قاله الأصمعي: كنت بالبادية وإذا أنا بشاب منعزل عنهم في أطمار رثّة وعليه سيماء الهيبة، فقلت: لو شكوت إلى هؤلاء حالك لأصلحوا بعض شأنك فقال:
لباسي للدنيا التجلّدُ والصبرُ ولبسي للاُخرى البشاشة والبشرُ
فتعرّفته فإذا هو علي بن الحسين (عليه السلام).
وممّا روي في إحسانه أنّه كان عنده قوم اضياف فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه على رأس بنيّ لعلي بن الحسين (عليه السلام) تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله. فقال علي للغلام وقد تحيّر الغلام واضطرب : انت حرّ فانّك لم تعتمده . وأخذ في جهاز ابنه ودفنه.
ادب الامام السجاد (عليه السلام)
يمكن الذهاب الى ان الامام السجاد (عليه السلام)، قد اتيح له من حيث زمن امامته نسبياً ان يفرز نتاجاً الى درجة ان الملاحظ لنتاجه، يمكنه ان يقرر بان ذلك من حيث الكم يأتي في المرتبة التالية بعد الامام علي (عليه السلام)، كما يجيء من حيث الكيف متميزاً بسمات خاصة، وفي مقدمة ذلك: ادب الدعاء الذي منحه السجاد (عليه السلام) خصائص فكرية وفنية تفرد بها (عليه السلام).
واذا كان أدب الجنس واللهو والخمر بدأ بالتحرك في هذا العصر، كما ان ادب المدح لسلاطين الدنيا، والأدب العقائدي المنحرف بعامة، فضلاً عن الصراعات السياسية المختلفة - بما في ذلك انتقال السلطة الاموية من بيت لآخر - ثم ملاحظة الاستئثار بالسلطة الزمنية واستبدال القيم الاسلامية بقيم عنصرية وفي مقدمة ذلك: محاربة الاسلاميين، ومحاربة الموالي مما مهد لأدب عنصري وهجائي يرتد الى الذهنية الجاهلية... كل اولئك قابله الامام السجاد (عليه السلام) بالتوفر على أدب خاص، يتجه من جانب الى نقد الاوضاع المنحرفة، ويتجه من جانب آخر الى بناء الشخصية الاسلامية في المستويين الفردي والاجتماعي، بحيث يمكن القول بأن ادب السجاد (عليه السلام) كان تجسيداً للحركة الاسلامية مقابل الأدب الدنيوي الذي بدأ ينحرف مع انحرافات السلطة وينحدر الى ما هو عابث ومظلم ومنحرف...
24/5/140603
................
https://telegram.me/buratha