المحاولات التي أراد منها المأمون إقناع الإمام الرضا (عليه السلام) بالخلافة عديدة و مستمرة و في بعض الروايات قيل أنها استمرت اكثر من شهرين. ففي إحدى المحاولات قال المأمون للإمام الرضا(عليه السلام):
(يا بن رسول الله قد عرفت فضلك، و علمك، و زهدك، و ورعك، و عبادتك، و أراك أحق بالخلافة مني ).
فقال الإمام (عليه السلام):(..بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، و بالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، و بالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله).
فقال المأمون: (فإني قد رأيت أن اعزل نفسي عن الخلافة، و اجعلها لك، و أبايعك ).
فأجابه الإمام (عليه السلام)جوابا شافيا كرهه المأمون (.. هل أن الخلافة هي ثوب ألبسك الله إياه، فإن كان ثوبا ألبسك الله إياه، فلا يكون بإمكانك أن تنزعه منك و تمنحه إياي، و إن لم يكن شيئا أعطاك الله إياه، فكيف تعطيني مالا تملك) (1).
و جاء في بعض النسخ هكذا (.. إن كانت الخلافة حقا لك من الله فليس لك أن تخلعها عنك، و توليها غيرك، و إن لم تكن لك، فكيف تهب ما ليس لك.. ) (2).
بعد هذا الجواب من الإمام قال المأمون: (.. لابد لك من قبول هذا الأمر).
فقال الإمام (عليه السلام) : (.. لست افعل ذلك طائعا أبدا).
فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله.
و خرج ذو الرئاستين مرة على الناس قائلا: واعجبا لقد رأيت عجبا سلوني ما رأيت ؟.
فقالوا: ما رأيت اصلحك الله ؟.
قال: رأيت المأمون يقول لعلي بن موسى الرضا قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين و افسخ ما في رقبتي، و اجعله في رقبتك.
و رأيت علي بن موسى الرضا يقول له: الله الله لا طاقة لي بذلك، و لا مقدرة لي عليه.. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها، أمير المؤمنين يتفصى فيها و يعرضها على علي بن موسى و علي بن موسى يرفضها و يأبى (3).
والسؤال هنا:
لماذا رفض الإمام الرضا (عليه السلام) الخلافة؟!.
ألم تكن فرصة لتنفيذ مبادئه وقيمه؟!.
الجواب:
عرض الخلافة على الإمام (عليه السلام) من قبل المأمون ليس جديا، فمن غير المعقول أن نرى رجلا يغصب الخلافة بالقوة ثم يعطيها إلى غيره بعدما قتل من اجلها قواده، ووزراءه، وحتى أخاه، حيث أعطى الذي جاءه برأسه مليون درهم، بعد ان سجد شكرا لله، ونصب الرأس على خشبة ليلعنه الناس.
المأمون ذلك الرجل المتعطش إلى الحكم، والذي قتل أخاه بتلك الصورة من اجله، لا يمكنه التنازل لرجل غريب بالنسبة له، ولو كان جادا في إعطاء الخلافة للإمام (عليه السلام) ، فلماذا لا يجبره على قبولها، مع انه اجبره على قبول ولاية العهد.
ولو كان المأمون جادا في عرضه لذهب إلى الإمام (عليه السلام) وهو في المدينة وتنازل له..
وإذا كان جادا فلماذا يأمر الإمام (عليه السلام) بالسير على طريق البصرة - أهواز، ولم يتركه يسير كيف ما شاء.
وإذا كان حقا يريد التنازل ويرجع الحق إلى أهله فلماذا يكتم فضائل الإمام (عليه السلام) عندما اخبره بها رجاء بن أبي الضحاك. الخلافة بالنسبة للمأمون قضية ملك وسلطان فلا يمكن التنازل عنها، حيث تعلم المأمون درسا بليغا من أبيه لايمكن أن ينساه أبدا عندما قال له (... والله لو نازعتني أنت هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فان الملك عقيم) (4).
عندما عرض المأمون الخلافة على الإمام (عليه السلام) كانت الدولة الإسلامية تعيش في جو مملوء بالفساد والانحراف وخاصة في أوساط بني العباس، حيث يصفهم المأمون فيقول: (..وانتم ساهون، لاهون تائهون، في غمرة تعمهون، لا تعلمون ما يراد بكم، وما ظللتم عليه من النقمة، وابتزاز النعمة، همة أحدكم أن يمسي مركوبا، ويصبح مخمورا، تباهون بالمعاصي، وتبتهجون بها، محنثون مؤنثون، لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة، ولا استدامة نعمة، ولا اصطناع مكرمة، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، واكببتم على اللذات، فسوف تلقون غيا.. ) (5).
هذه الصورة لا تكشف كل الحقيقة فحالة الفساد والتسيب الإداري اكبر من ذلك ناهيك عن المجون والتحلل الأخلاقي الذي أصبح سمة ذلك العصر، فهي والحالة هذه تحتاج إلى تغيير جذري وشامل، لا تغيير شكلي ينتهي بعد أيام.
والإمام الرضا (عليه السلام) لا يمكنه أن يعمد إلى الأجهزة الموبوءة ويطلب منها أن تطبق الإسلام وتقيم حدوده، وذلك لأن الإمام كان وحده، لا يملك الجهاز الواعي المتفتح ولا الكوادر اللازمة التي تستطيع تطبيق مفردات المنهج الإسلامي في الحكم بكل أمانة واخلاص، ومعنى ذلك أن أي خطأ من الأجهزة المنفذة سوف يقع لومه على الإمام (عليه السلام) .
لماذا قبل الإمام (عليه السلام) ولاية العهد ؟ المحاولات التي قام بها المأمون لاقناع الإمام (عليه السلام) بولاية العهد عديدة و متنوعة، فتارة بواسطة الرسائل حين كان الإمام (عليه السلام) لا يزال في المدينة المنورة، و تارة يقوم بإرسال بعض الشخصيات أو القواد، أمثال رجاء بن أبي الضحاك والفضل و الحسن ابني سهل، لاقناع الإمام بولاية العهد. وتارة يتهدد الإمام بالقتل تلويحا و تصريحا، و الإمام (عليه السلام) يرفض قبول ما يطرح عليه، إلى أن علم الإمام (عليه السلام) أن المأمون لا يمكن أن يكف عنه، فلا بد وأن يقبل ولاية العهد، فلذلك قبل ولاية العهد مكرها في السابع من شهر رمضان سنة (201هـ).
• فقد جاء عن أبي الفرج: (.. فارسلهما (يعني الفضل و الحسن ابني سهل ) إلى علي بن موسى، فعرضا ذلك (يعني ولاية العهد) عليه، فأبى، فلم يزالا به، و هو يأبى ذلك ويمتنع منه.. إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت ذلك، وإلا فعلنا بك و صنعنا، و تهدده )، ثم قال له أحدهما: (و الله امرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد ).. ثم دعا به المأمون و تهدده، فامتنع، فقال له قولا شبيها بالتهديد، ثم قال له: (إن عمر جعل الشورى في ستة، أحدهم جدك و قال: من خالف فاضربوا عنقه و لا بد من قبول ذلك.. ) (6).
• و يروي آخرون: إن المأمون قال له: (.. يا ابن رسول الله إنما تريد بذلك (يعني بما اخبره به عن آبائه من موته قبله مسموما ) التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: انك زاهد في الدنيا).
فقال الإمام الرضا (عليه السلام) : (والله ما كذبت منذ خلقني ربي عزوجل، و ما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد).
فقال المأمون: و ما أريد ؟.
فقال الإمام (عليه السلام) : الأمان على الصدق ؟.
قال المأمون: لك الأمان.
قال الإمام الرضا (عليه السلام) : تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون: كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة ؟.
فغضب المأمون، و قال له: (انك تتلقاني أبدا بما اكرهه. و قد أمنت سطوتي، فبالله اقسم: لئن قبلت ولاية العهد، وإلا أجبرتك على ذلك، فان فعلت، و إلا ضربت عنقك).
فقال الإمام (عليه السلام) : (.. قد نهاني الله تعالى أن القي بيدي للتهلكة، فان كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك.. ) (7).
* و قال الإمام الرضا (عليه السلام) : في جواب الريان له، عن سر قبوله لولاية العهد:
(.. قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك و بين القتل، اخترت القبول على القتل، و يحهم أما علموا أن يوسف (عليه السلام) كان نبيا و رسولا فلما دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه و إجبار بعد الإشراف على الهلاك على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه فإلى الله المشتكى وهو المستعان) (8).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام) : في جواب محمد بن عرفه،عندما قال له: يا بن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد ؟. (.. ما حمل جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) على الدخول في الشورى.. ) (9).
يقول الهروي (والله ما دخل الرضا (عليه السلام) في هذا الأمر طايعا ولقد حمل إلى الكوفة مكرها ثم اشخص منها على طريق البصرة و فارس إلى مرو ) (10).
يقول الإمام الرضا (عليه السلام) في دعاء له: (.. وقد أكرهت و اضطررت،كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل، متى لم اقبل ولاية ).
بل لقد أعرب الإمام (عليه السلام) عن عدم رضاه في نفس ما كتبه على ظهر وثيقة العهد: فيقول (عليه السلام) : (.. لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه والله يعصمني.. ) (11).
أما احمد أمين فيقول: (..والزم الرضا بذلك فامتنع ثم أجاب.. ) (12).
و قال القندوزي: (.. انه قبل ولاية العهد، وهو باك حزين.. ) (13).
و قال المسعودي: (.. فألح عليه، فامتنع، فأقسم، فأبر قسمه.. ) (14).
وقبول الإمام للولاية ربما كان محاولة أخيرة للوقوف أمام الهدر المتواصل لدماء العلويين، حيث تذكر الأخبار بان المجازر توقفت بعد قبول الإمام لولاية العهد.
ربما يكون قبوله (عليه السلام) لولاية العهد في تلك الظروف خير وسيلة للدفاع عن مبادئ الإسلام والوقوف بوجه التيار الإلحادي الذي أوجده الزنادقة.
و على كل حال النصوص الدالة على عدم رضا الإمام (عليه السلام) كثيرة جدا و لمن أراد الاطلاع فليراجع ما كتبه الشيخ الصدوق و العلامة المجلسي - رحمهما الله - في عيون أخبار الرضا و البحار ج 49.
أهداف المأمون من فرض الولاية على الإمام (عليه السلام) ودوافعه تجاه الإمام (عليه السلام) لم تكن سليمة منذ بدايتها، لأنها كانت تنبع من نفس خبيثة أرادت تحقيق مصالح سياسية و أغراض وقتية فقط، فعندما طلب المأمون من الإمام (عليه السلام) المسير إليه، أمره في نفس الوقت أن لا يسلك طريق الكوفة و الجبل و قم، بل عليه أن يسلك طريق البصرة أهواز فمرو و ذلك لكثرة الشيعة في هذه المناطق خاصة قم و قلتها في البصرة و الأهواز.
قال الربيعي: (.. كتب إليه المأمون: لا تأخذه على طريق الجبل و قم، و خذه على طريق البصرة و الأهواز وفارس، وامنعه من الكوفة أيضا، لما علم من كثرة الشيعة في هذه البلدان، فخاف أن يفتتنوا به.. ) (15).
أما الدوافع أو الأهداف الكامنة في نفس المأمون فهي:
1- أراد المأمون أن يأمن من خطر الإمام (عليه السلام) ، و من الشخصية العظيمة التي ارتضاها أهل الخاصة و العامة، حتى يتسنى له:
أ) رصد تحركات الإمام (عليه السلام) ومراقبتها مراقبة دقيقة، بواسطة الجواسيس الذين يخبرونه بكل حركة من حركات الإمام، وكل تصرف من تصرفاته.
فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضا (عليه السلام) وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده. و لكنه لما حمل إلى مرو اتصل ابن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون، فحظي بذلك عندهما. و كان لا يخفي عليهما شيئا من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. و كان لا يصل إلى الرضا إلا من احب، و ضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. و كان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون و ذي الرئاستين ) (16).
وعن أبي الصلت: إن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: و الله انه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه.. ) (17).
الجواسيس الذين كانوا حول الإمام (عليه السلام) نقلوا للمأمون أخباره الخارجية فقط، أما الأخبار الداخلية فنقلتها له ابنته أم حبيبة التي زوجها للإمام (عليه السلام) و قضت عليه فيما بعد، فتزويج الإمام (عليه السلام) من أم حبيبة كان لعبة سياسية لتحقيق مصالح سياسية.
ب) عزل الإمام (عليه السلام) عن شيعته و محبيه، وقطع صلاتهم به، و تشتيت شملهم حتى لا يستفيدوا من توجيهاته و أوامره.
و يروي الشيخ الصدوق رسالة الإمام (عليه السلام) إلى احمد بن محمد البزنطي (.. وأما ما طلبت من الإذن علي، فان الدخول ألي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا عليّ في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله.. ) (18).
ويروي أيضا: رفع إلى المأمون: إن أبا الحسن علي بن موسى يعقد مجالس الكلام، والناس يفتتنون بعلمه، فأمر محمد بن عمر الطوسي - حاجب المأمون – فطرد الناس من مجلسه، و احضره، فلما نظر إليه المأمون زجره، و استخف به (19).
كما إننا نرى الإمام (عليه السلام) عندما وصل إلى القادسية، و هو في طريقه إلى مرو، يقول لاحمد بن محمد بن أبي نصر: (.. إكتر لي حجرة لها بابان: باب الى الخان، و باب الى الخارج، فإنه استر عليك ).
ج) زرع الريب و الشكوك في طريق زعامة أهل البيت (عليه السلام) خاصة عند القبول بولاية العهد، حيث إن هذا الأمر لا ينسجم مع الشعارات التي طرحتها مدرسة أهل البيت، ألا و هي اخذ البيعة للرضا من آل محمد، فقبول الإمام (عليه السلام) بولاية العهد يعني انه يقبل بأنصاف الحلول.
د) أراد أن ينتزع من الإمام (عليه السلام) اعترافا بخلافته، و لقد باح المأمون بهذا الدافع، عندما اجاب حميد بن مهران، و جمعا من العباسيين، الذين قالوا له ما أخوفنا أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي، بل ما اخوفنا أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك، و التوثب على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه و ملكه مثل جنايتك؟.
فقال المأمون:
(..قد كان هذا الرجل مستترا عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك و الخلافة لنا، و ليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل و لا كثير، و إن هذا الأمر لنا دونه.
و قد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن ينفتق علينا منه ما لا نسده و يأتي علينا مالا نطيقه. و الآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، و أخطأنا في أمره بما أخطأنا، و أشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. و لكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلا، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه.. ) (20).
هـ) أراد المأمون أن يسقط الإمام (عليه السلام) اجتماعيا، حيث يظهر لهم بالعمل لا بالقول أن الإمام رجل دنيا فقط.
2- إخماد الثورات و احتوائها و كسب عواطفها العلوية، و بالفعل فقد اخمد جميع الثورات بعد البيعة، فلم تقم اية ثورة سوى ثورة عبد الرحمن بن احمد في اليمن، حيث كان سببها ظلم الولاة و جورهم.
3- أراد المأمون أن يلبس خلافته الثوب الشرعي، ويضفي على حكمه عناصر الهدوء والاستقرار فالخلافة التي اغتصبها وسيطر عليها بالقوة لا يمكن أن تقف بوجه العواطف و الطقوس المتقلبة ما لم يلبسها ثوبا شرعيا، يحميه من جميع الظروف، فالعباسيون كانوا ينظرون نظرة شك و ريب من خلافة المأمون الذي قتل خليفتهم(الأمين)، وفعل أفعاله الشائنة برأس أخيه عندما نصبه في صحن الدار وامر بلعنه، هذه الأفعال أثرت تأثيرا سيئا على سمعته وهزت ثقة العباسيين به، لا بل حتى العرب فقدوا ثقتهم به.
و قال له الفضل بن سهل، عندما عزم على الذهاب إلى بغداد: (..ما هذا بصواب، قتلت بالأمس أخاك، و أزلت الخلافة عنه، و بنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك و العرب.. إلى أن قال: و الرأي أن تقيم بخراسان، حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسوا ما كان من أمر أخيك.. ) (21).
أما العلويون و مواليهم فكانوا لا يؤمنون أصلا بخلافة العباسيين، فهم ينظرون إلى الخليفة بأنه غاصب حقوقهم بقوته، لذلك يرفضون طاعته و الاعتراف به، فالمأمون اختار لولاية عهده رجلا يحظى بالاحترام و التقدير من جميع الفئات و الطبقات و له من النفوذ و العلم و القوة و الكلمة المسموعة، ما لم يكن لأي أحد سواه في ذلك الحين.
يقول الدكتور الشيبي:
(.. و قد كان الرضا من قوة الشخصية، و سمو المكانة، أن التف حوله المرجئة، و أهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.. ) (22).
مواقف تاريخية للإمام (عليه السلام) بعد قبوله الولاية:
الإمام (عليه السلام) عندما قبل ولاية العهد بعد التهديد، كان يعلم أن المأمون يريد أن يجعله وسيلة لتحقيق مصالحه السياسية و أغراضه الوقتية، التي تكون لها آثار سيئة و خطيرة على سمعة أهل البيت (عليه السلام) و على مستقبل الأمة و الدين الإسلامي، فلا يمكنه أن يسكت مؤيدا أعمال المأمون الخبيثة. فلا بد له أن يتخذ إجراءات و مواقف يستطيع بواسطتها إفشال مؤامرات المأمون و مخططاته الشريرة. لذلك فالإمام (عليه السلام) رفض الخلافة و من ثم ولاية العهد، و هو في المدينة، و حين خروجه منها، عندما كان المأمون يبعث له الرسائل و الأشخاص طالبا منه القبول، و حتى في مرو الإمام (عليه السلام) رفض اشد الرفض، و لكن المأمون اجبره بقبول الولاية، فالإمام (عليه السلام) لم يبق ذلك الإجبار طي الكتمان، فأعلن انه لن يقبل ولاية العهد مختارا و إنما قبلها بعد إكراه و تهديد. وقد عرّف المأمون بنواياه الحقيقية عندما قال له:
(.. تريد أن يقول الناس إن علي بن موسى لن يزهد في الدنيا بل الدنيا زهدت به، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الدنيا و طمعا في الخلافة.. ) (23).
و نرى كذلك موقف الإمام (عليه السلام) في كيفية البيعة عندما قال له المأمون ابسط يدك للبيعة، ودخل الناس يبايعون، كانوا يصفقون بأيمانهم على يمين الإمام، من أعلى الإبهام إلى الخنصر و يخرجون، حتى بايع في آخر الناس شاب من الأنصار فصفق بيمينه إلى أعلى الإبهام، فتبسم الإمام (عليه السلام) ثم قال: كل من بايعني بايع بفسخ البيعة، غير هذا الشاب فإنه بايعني بعقدها.
فقال المأمون:
و ما فسخ البيعة من عقدها؟.
قال أبو الحسن (عليه السلام) : عقد البيعة هو من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، و فسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر.
فماج الناس في ذلك و أمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن (عليه السلام) .
فقال الناس: كيف يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة، إن من علم لأولى ممن لا يعلم.
و يظهر لنا موقف الإمام (عليه السلام) بوضوح عندما اشترط على المأمون بوثيقته التاريخية التي كتبها على أن لا يمارس أي نوع من أنواع السلطة في حل و عقد و في عزل و تعيين، فقد قال الإمام (عليه السلام) للمأمون عندما اجبره بالقبول: (و أنا اقبل ذلك على أن لا أولي أحدا و لا اعزل أحدا و لا انقض رسما و لا سنة و أكون في الأمر من بعيد) (24).
موقف الإمام (عليه السلام) هذا تعبير و إعلان صريح بان نظام الحكم فاسد لا يجوز التعاون معه في ابسط الأمور، لأنه نظام فاقد الشرعية.
و هذا يعني أيضا أن الإمام (عليه السلام) أعلن براءته من حكم المأمون و من كل تبعاته، و انه لا يمكن له أن يعمل في وسط يحتاج إلى التغيير و التبديل من الجذور.
وهناك موقف أخر للإمام (عليه السلام) في صلاة العيد، عندما اشترط على المأمون أن يخرج كما كان يخرج جده رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لا كما يخرج الآخرون.
فالإمام (عليه السلام) عندما اشترط على المأمون أن يخرج كما خرج الرسول صلى الله عليه و اله وكما خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أراد بذلك إفهام الناس بان سلوكه و أسلوبه والمفاهيم التي يحملها تختلف عن سلوك و مفاهيم المأمون و أشياعه، وخطه وخط الرسول صلى الله عليه و اله، و منهجه ومنهج أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ليس خط المأمون، الذي اعتادوا عليه.
و بمعنى أخر أراد الإمام (عليه السلام) فضح تصرفات المأمون وأشياعه، و إفهام الناس بان الحاكم هكذا يجب أن تكون تصرفاته و أعماله.
هذه المواقف إضافة إلى مواقف أخرى اتخذها الإمام (عليه السلام) ومن جملتها سلوك الإمام في حياته الاجتماعية، و خطبته عندما بايعه الناس، التي بيّن فيها قبوله للولاية مكرها وأكد عدم شرعية خلافة المأمون: كل هذه المواقف أذهلت عقل المأمون و جعلته يتخبط لا يعرف ماذا يفعل لذلك صمم القضاء عليه.
الإمام الرضا (عليه السلام) وولاية الحاكم الجائر:
المتتبع لسيرة أهل البيت (عليه السلام) يرى انهم يولون مسألة الحاكم الظالم وما يدور في فلكه عناية خاصة تنم عن عظم الخطر الذي يأتي من هذا الجانب، فالأحاديث في هذا المضمار عديدة ومتشعبة، فقد افرد لها الشيخ الأنصاري - رحمه الله - بابا خاصا في مكاسبه تحت عنوان (ولاية الجائر).
وعلى الرغم من التأكيدات المختلفة من قبل جميع أئمة أهل البيت (عليه السلام) على عدم قبول التعاون بأي شكل كان مع الحاكم الجائر أو الظالم نرى هناك صوراً أخرى معاكسة - ظاهراً - لما يصدر عنهم (عليه السلام) أمثال السماح لعلي بن يقطين وإسماعيل بن بزيغ بالعمل تحت مظلة الحكام.منها انهم (عليه السلام) سكتوا حينا على بعض المظالم كما يحلو للبعض ان يقول، وقبلوا حينا آخر ببعض المناصب ولعل ولاية عهد الإمام الرضا تأتي في مقدمة المسائل التي تثار ضد أهل البيت (عليه السلام) في هذا المضمار.
فيما يتعلق بالنماذج التي ذكرت والتي باركها وايدها بعض أئمتنا الأطهار (عليه السلام) ، فهي لم تقدم على أية خطوة إلا بعد حصولها على تصاريح خاصة بالموافقة على الدخول في هذا الأمر، وذلك لانهم يحملون مزايا وخصائص تفردوا بها عن غيرهم، وهذه الفوارق والامتيازات هي التي جعلتهم ينالون رضى إمام زمانهم وموافقته على إبقائهم في مناصبهم الزمنية، فالأئمة (عليه السلام) لا يسمحون لأي شخص كان بالتعاون مع الجائر او الظالم ولم يعطوا العذر لأي أحد من شيعتهم عندما كان يراجعهم بشأن العمل مع الظلمة ولو كان واقعا في اشد المحن والابتلاءات وحتى إن أدى إلى فقدان عمل الشخص أو ماله أو مركزه،لان الشخص العادي إن تقرب إلى الحاكم الظالم سوف لا يسلم على نفسه بالتأكيد فمن يصحب صاحب السوء لا يسلم،ومن يتقرب إلى الظلمة فان طبعه يسرق من طبعهم وهو لا يعلم، وبالتالي يكون واحدا منهم وجسرا يعبرون عليه لتحقيق مآربهم، والى ذلك أشار الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما قال لمحمد بن مسلم الزهري (.. واعلم إن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت انك آنست وحشة الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت وإجابتك له حين دعيت..أو ليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطبا أداروا به رحى مظالمهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّما إلى ضلالتهم، داعيا إلى غيهم، سالكا سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم..فما اقل ما أعطوك في قدر ما اخذوا منك.. ) (25).
أما فيما يتعلق بالإمام الرضا (عليه السلام) فنقول:
إن الإمام العالم العارف بجميع الظروف الموضوعية لا يحتاج إلى غيره لكي يحدد له مسارات تحركه وبنود أعماله، فالظرف التاريخي وما يحيط به من ملابسات وما يتعلق به من أحداث قريبة أو بعيدة كانت أمام المعصوم مكشوفة واضحة يراها كما يرى أصابع يده، فان دخل في ولاية العهد او رفضها فالمعيار ليس حفظ النفس من القتل فقط وانما فائدة هذا العمل وانعكاساته على استمرارية الرسالة المحمدية وبقائها نقية بيضاء من كل دنس، وهذا ما كان ينظر إليه الإمام الرضا (عليه السلام) عند موافقته على عرض المأمون، فكيف به والحال انه أجبر على الموافقة، وهناك نفوس بريئة – من العلويين أو غيرهم – يراد حفظ دمائها والمحافظة عليها..
الإمام الذي رفض التعاون مع أولئك الذين أرادوا اغتيال المأمون وضيع فرصة ذهبية في نظر البعض (26) يمكن أن تعيد إليهم الخلافة المغتصبة، لابد وأنه كان ينظر بعيدا وبعيدا جدا حتى يترك هذا الأمر ويفضل المسالك الأخرى، ربما كان هناك ما يخشاه على الإسلام واستمرارية رسالة السماء، وربما جاءت موافقته من هذا الباب، أو أن هناك أعداء من داخل الحكم ينوون شرا بالإسلام أمثال الفضل والحسن ابني سهل الذين كانا يضمران للإسلام وأهل البيت (عليه السلام) كل الحقد والكراهية، وهناك دلائل تاريخية تشير إلى أن هولاء كانت لهم خطة لتصفية الإمام والمأمون والاستحواذ على الحكم، وربما تشير سرعة قتلهم من قبل المأمون إلى انكشاف مؤامرتهم الخطيرة.
بعد تفشي طاعون الزنادقة في أوساط الأمة ودخولهم في مختلف المحافل العلمية بعلم أو بدون علم من الحكام أو غيرهم، قد تكون ولاية العهد خير فرصة لمواجهة هذا المد المتنامي وتفنيد كل اساساته وخططه، خصوصا وان الإمام كان يعيش حالة من الحصار والتعتيم منعته من التصدي لهكذا أفكار وآراء، ولعل هذا يفسر كثافة ما ورد عنه (عليه السلام) في الفترة التي كان فيها وليا للعهد ولو بصورة شكلية، وما وصل إلينا – في هذه الفترة تحديدا - من الكم الهائل من أحاديث الإمام (عليه السلام) يفوق كل ما جاء عنه (عليه السلام) طوال السنوات الأخرى التي عاشها، وما يستفيد منه المسلمون والشيعة على الخصوص اليوم جاء الكثير منه من الإمام الرضا (عليه السلام) ، وربما هذا سبب آخر جعل الإمام يقبل ولاية العهد ولا يلقي بنفسه في التهلكة.
صحيح أن التعاون مع حكام الجور والظلمة محرم بالعنوان الأولي، ولكنه قد يكون مستحبا في بعض الموارد، وواجبا في موارد أخرى كأن يتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قبول منصب من طرف الظالم فحينئذ يكون القبول ملزما، أو تكون هناك أهمية تفوق مسألة عدم التعاون كأن يحمي نفسه واتباعه في فترة من الزمن لحين تمكنه من تقوية نفسه والاستعداد لخطوة مغايرة أو يتعاون لحين الانتهاء من دفع خطر اعظم متوجه نحو الإسلام والمسلمين، وكل هذه الأمور منوط حكمها بالإمام المعصوم فهو الوحيد القادر على تشخيص الحكم وتعيينه، لحكمة او لظروف موضوعية يراها مقدمة على غيرها، وهذا ما نراه جليا من رسالة الإمام الكاظم (عليه السلام) لعلي بن يقطين عندما طلب منه البقاء في منصبه، حيث قال له: (عسى أن يجبر الله بك كسرا ويكسر بك نائرة المخالفين من أوليائه. ) (27). واليوم فان مسألة التعاون مع الظلمة منوطة بشورى الفقهاء باعتبارها الجهة الشرعية الوحيدة التي تستطيع تشخيص الحكم وتحديد الأولويات وتقديم الأهم على المهم.
الإمام (عليه السلام) عندما اكره على قبول الولاية، أراد الحصول على اكبر قدر ممكن من الفوائد والمكاسب وان كان يعلم انه سيستشهد بعد فترة قصيرة، ومن المعلوم أن الحفاظ على النفس ولو لساعات قليلة افضل من إلقائها في التهلكة، وخصوصا أن الظروف التي كان يعيشها الإمام الرضا (عليه السلام) هي غير الظروف التي عاشها الإمام الحسين (عليه السلام) والتي كانت تتطلب إراقة دمائه الزكية لإحداث هزة عنيفة في نفوس المسلمين، ولو فعل الإمام الرضا ذلك في ظروفه تلك لضاع دمه ولما حصلت فائدة تذكر من حياته الشريفة.
بعد قبول الإمام ولاية العهد دخل عليه بعض البسطاء ممن لا يعرفون مقام الإمامة فقالوا له أصلحك الله يا بن رسول الله كيف يرد اسمك مع أسماء هؤلاء وقد رفض آباؤك من قبل مثل هذا فقال (عليه السلام) : (قد علم الله كراهتي لذلك فلما خيرت بين قبول ذلك و بين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف (عليه السلام) ، كان نبيا رسولا، فلما دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز قال له: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، و دفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه و إجبار، بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر، إلا دخول خارج منه. فإلى الله المشتكى، و هو المستعان... )(28).
وهذا الاستدلال على بساطته قد يكون خير جواب على أؤلئك الذين يرون في قبول ولاية العهد من قبل الإمام الرضا (عليه السلام) بابا واسعا لهم للتعاون المطلق وغير المشروط مع حكام الجور والظلمة وذريعة يتشبثون بها عند كل ملمة تواجههم، فهم غير معذورين بما يفعلونه ومحاسبون في الدنيا قبل الآخرة على أعمال ابتدعوها..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 139.
2 - تاريخ الشيعة ص 51.
3 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 140.
4 - المصدر السابق ج 1 ص 91.
5 - بحار الأنوار ج 49 ص 213.
6 - مقاتل الطالبيين ص 562.
7 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 139 والبحار ج 49 ص 130.
8 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 138.
9 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 140 والبحار ج 49 ص 140.
10 - عيون أخبار الرضا ج 2 140.
11 - بحار الأنوار ج 49 ص 208.
12 - ضحى الإسلام ج 3 ص 294.
13 - ينابيع المودة ص 284.
14 - إثبات الوصية ص 205.
15 - وفاة الرضا ص16.
16 - عيون أخبار الرضا ج2 ص 153.
17 - المصدر السابق ص 239.
18 - المصدر السابق ص 213.
19 - المصدر السابق ص 213.
20 - بحار الأنوار ج49 ص 183.
21 - المصدر السابق ص 166.
22 - الصلة بين التصوف والتشيع ص 223.
23 - علل الشرايع ج 1 ص 226.
24 - المصدر السابق ص 228.
25 - تحف العقول ص 198.
26 - انظر عيون أخبار الرضا ج 2 ص 164.
27 - سفينة البحار ج6 ص 440.
28 - بحار الأنوار ج49 ص 136.
.......................
المصدر : السبطين
...................
2/5/140907
https://telegram.me/buratha