إن النمو التاريخي للتشيع في جنوبي شرق آسيا يبقى مُبهماً من جراء قلة المواد المكتوبة. في الحديث العام، خصوصاً بين أولئك الذين يسعون إلى التقليل من أهمية جذوره التاريخية، ظهر التشيع في المنطقة بعد الثورة الإيرانية في العام 1979.
وفيما من المؤكد أن الثورة الإيرانية دفعت بعض المسلمين السنة من جنوبي شرق آسيا إلى دراسة الإسلام الشيعي واعتناقه خلال الثمانينيات، فإن مسألة ما إذا كانت الثورة الإسلامية تُعد الحافز الوحيد لحضور التشيع في المنطقة تبقى خاضعة للنقاش. البعض يُحاجج بأن الثورة فقط زادت حجم السكان الشيعة الموجودين أصلاً. ولكن، ما من دليل يدعم وجود أي نفوذ شيعي تاريخي قديم الأمد في ماليزيا.
حجة واحدة تُذكر غالباً لصالح أن الحضور الشيعي القديم في ماليزيا هو جراء التواجد الفارسي في ملكا خلال الاحتلال البرتغالي في العام 1511. ولكن حقيقة أن بلاد فارس لم تعتنق التشيع على نطاق واسع إلا في أوائل القرن السادس عشر تجعل هذا الادعاء عقيماً في أفضل أحواله. ومع قدر صلب أكثر من البحث يتبين أن عدداً من الشيعة الهنود انضموا إلى القوات العسكرية الاستعمارية البريطانية في بنانغ وهم من أحضروا عناصراً من الشعائر الثقافية الشيعية التي بدورها وجدت طريقها إلى الاحتفالات الماليزية المعاصرة.
بغض النظر عن السلف التاريخي للمعتقد، فإن أولوية الماليزيين العرقيين تعني أن الإسلام الشيعي يُعتبر طائفة “منحرفة” في البلاد. ورغم أن المتحدثين الرسميين يدّعون باستمرار أن الدولة ليس لديها مخاوف بشأن ممارسة الشيعة لمعتقدهم طالما أنهم يمتنعون عن الإرشاد، فإن أتباع المذهب يواجهون قيوداً اجتماعية وقانونية على حد سواء. وأساس هذا التمييز المؤسس ينبع من مصدرين: التشريع الحكومي والتزمت الديني.
إن الأساس التشريعي لعمل الحكومة المُعادي للشيعة يمكن إيجاده في قانون الأمن الداخلي عام 1960، وكان قد شُرّع في خلال قانون الطوارئ ضد الشيوعية من أجل إسكات مروحة واسعة من المعارضة السياسية والدينية. وقد سمح قانون الأمن الداخلي باعتقال أي أحد لفترة 60 يوماً دون تحديد أي مدة للمحاكمة ويمكن تمديدها لعامين إذا كان المتهم تصرف على نحو يُخالف لأمن ماليزيا. ثم وُضعت قيود هامة على احكام الاعتقالات تلك عندما استُبدل قانون الأمن الداخلي بقانون الجُنح الأمنية في حزيران 2012.
هذا التمييز حصل على تشريع ديني في العام 1996 حين أصدرت لجنة الفتوى للشؤون الدينية حُكماً دينياً (فتوى) تثبت معتقد الإسلام السني وتُحرّم الإسلام الشيعي على أنه انحراف. وبفعلتها تلك، هي منعت الشيعة من نشر معتقداتهم وتوزيعها في أي مصادر الكترونية أو مكتوبة تتبنى المبادئ الشيعية. وما يُثير للدهشة أن هذا الحكم ألغى قراراً صادراً عن اللجنة نفسها في العام 1984 وكان قد اعتبر التشيع مسموحاً في ماليزيا. وفقاً للنظام الفدرالي في البلاد، مثل هكذا قرار يتطلب موافقة كل ولاية على حدة من أجل أن يكون فاعلاً. لسوء حظ المجتمع الشيعي، عشرة من أصل أربع عشرة ولاية وافقت في البداية على تطبيق الفتوى. وولاية حادية عشرة، كيدا، طبقت الفتوى في العام 2013 تلبية لطلب السلطان الذي أعلن أن “التعاليم الشيعية مرفوضة من قبل الدولة ومجالس الفتوى الرسمية. وبناءً عليه يحق للحكومة اتخاذ أي إجراء بحق أولئك الذين ينشرون تلك التعاليم”.
استُخدم قانون الأمن الداخلي في مناسبات عدة لاستهداف الشيعة في ماليزيا. فاعتُقل 10 أفراد من الشيعة بناءً على قانون الأمن الداخلي وعانى 6 آخرين من المصير نفسه في تشرين الأول 2000. والنظام الفدرالي اعتبر أيضاً أن الالتزام بالفتوى المعادية للشيعة ليس معيارياً، حتى ضمن تلك الولايات التي تنفذ القوة الشرعية. على سبيل المثال، في كانون الأول 2010 إعتُقل 200 شيعي من قبل الدائرة الدينية الإسلامية في سيلانغور بتهمة إحياء مراسم عاشوراء عملاً بقانون التشريع الجنائي في شريعة ولاية سيلانغور. وبعد أربعة أعوام، اعتقل 114 شيعياً من قبل دائرة الشؤون الدينية الإسلامية في بيراك بمساعدة من الشرطة الماليزية.
إن سياسة الهوية التقليدية تُخفي سياسة حظر الإسلام الشيعي للمؤسسة الدينية والسياسية الماليزية. ففتوى العام 1996 فُسرت وفقاً للتشريع الدستوري للإسلام على أنها الدين الرسمي للدولة عبر تضييق تعريف “المسلم”. وهذا سمح لأولئك الذين لا يشملهم التعريف أن يُشار إليهم على أنهم “الآخرون”، في المقابل هذا الأمر صنفهم كتهديد على الوحدة الوطنية وجعل اتباعهم الديني قضية أمن داخلي. ورئيس دائرة التنمية الإسلامية الماليزية قال: “إن انتشار المعتقد الشيعي ليس مسألة متعلقة فقط بمعارضة الفتوى، بل إن قضية الأمن القومي تؤخذ بالحسبان من قبل وزارة الداخلية في منع الحركة الشيعية في البلاد”.
وما يوضح موقفه أكثر ربما يكون تعليقه الأخير الذي وصف فيه التشيع على أنه “سرطان يجب منع انتشاره بأفضل وسيلة ممكنة، قبل أن يسوء ليصبح تهديداً على وحدة المسلمين”. لذا، التهديد الحقيقي من التشيع نابع من الإرشاد، وهي لازمة مشتركة ترددها المجتمعات السنية في كل مكان. في السياق الماليزي، التخوف أكثر عمقاً. فإذا كانت الهوية الوطنية الحقيقية مرتبطة بالمعتقد السني، عندها يكون إضعاف ذاك المعتقد له أثر مباشر على الهوية الوطنية كما حُدد في فتوى العام 1996. وبالطبع، هذا له إشارة دلالية على التوجه المحافظ لأولئك القابعين على المستويات العليا في القيادة الدينية والسياسية الماليزية.
ومُجرّد أن يخرج الجن الطائفي من القمقم، سيكون من الصعب جداً العودة إلى الوضع الراهن. كما أن قضية الطائفية ما بين المسلمين تُستخدم أيضاً كتكتيك لتلويث سمعة الخصوم السياسيين. فنائب زعيم المعارضة في الحزب الاتحادي الإسلامي اتُهم بأن له ارتباطات بالإسلام الشيعي من قبل وزير الداخلية في الحزب الحاكم في كانون الأول 2013. وفيما لم يرتكب جريمة وفقاً للأحكام القانونية، فإن الاتهام أساء بشرعية هويته الماليزية عبر ربطه بمعتقد ابتداعي.
وعلى الرغم من أن المجتمع الشيعي الماليزي هدف محلي سهل نسبياً، يجب على حملة تشويه السمعة الطائفية التي تشنها الحكومة أن تتسم بالحذر خشية أن تؤثر على العلاقات مع البلدان ذات الأغلبية الشيعية، مثل إيران والعراق. وكان حاروساني زكريا، عضو في مجلس الفتوى الوطني، قد اتهم سابقاً المذهب الشيعي بأنه طائفة إيرانية، في إشارة إلى أن هكذا ارتباطات خارجية بطريقة ما تضر بمصالح المسلمين الماليزيين.
من جانبها، تغاضت إيران، أقله على المستوى الرسمي، بمرارة عن سياسات ماليزيا المعادية للشيعة. في الواقع، ليس أمامها سوى هذا الخيار. فنظراً لأثر العقوبات الاقتصادية، لا تستطيع طهران خسارة شركاء تجاريين محتملين. إذ أن الأعمال التجارية بين البلدين تبلغ واحد ونصف مليار دولار، ما يُشير إلى إمكانية كبيرة بأن تنمو وتتزايد. في الوقت نفسه، إن تواجد ما يُقارب الـ80000 إيراني في ماليزيا، 15000 منهم هم طلبة، يُسهل تأسيس علاقات شخصية هامة التي من شأنها أن تؤدي إلى تعاون اقتصادي ثنائي في المستقبل.
حصلت اتهامات بأن بعض رجال الأعمال الإيرانيين يؤسس لتنفيذ مقاطعة غير رسمية للمنتجات الماليزية كرد على سوء المعاملة الماليزية بحق الشيعة وأن شركة بتوناس النفطية التابعة للدولة الماليزية واجهت عقبات بيروقراطية في مسار تعاملها مع الحكومة الإيرانية. لكن السفارة الإيرانية في جاكرتا أنكرت تلك الاتهامات، ما أدى أيضاً إلى نشر تعليق سلبي من قبل فرد في البرلمان العراقي على موقع يوتيوب، على الرغم من أن الحكومة العراقية تمتنع بوضوح عن إصدار أي انتقاد رسمي للحكومة الماليزية.
ولكن، بعيداً عن تلك الردود، يبقى الشجب الدولي لممارسات ماليزيا محدوداً. لقد فحص مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الوضع في ماليزيا مرتين لكن لم يتلق سوى اقتراحات خارجية قليلة لمناقشة القضية المتعلقة بمأزق المسلمين الشيعة في البلاد. وكانت الولايات المتحدة البلد الوحيد الذي أثار بشكل خاص سياسة التمييز التي تتبعها الحكومة الماليزية بحق الشيعة (والجماعات الأخرى) كجزء من نقاشات المجلس المتعلقة بمراجعته الدورية العالمية للعام 2013. وفيما التقرير النهائي للمراجعة الدورية العالمية الخاص بالبلد لم يأت على ذكر التمييز بحق الشيعة، قدّم الفريق الخاص بالأمم المتحدة العرض التالي:
أشار الفريق التابع للأمم المتحدة أن صعود العقيدة المسلمة المحافظة المتبعة رسمياً هددت قدرة المسلمين على ممارسة معتقدهم سواء من حيث الشكل أو المضمون بخلاف ما حددتها السلطات الدينية. والدفع من أجل فرض وجهة نظر رسمية واحدة للإسلام، مدعومةً باستخدام إجراءات جزائية واستغلال الدولة والأطراف غير الرسمية للشريعة والقوانين المدنية من أجل إسكات الآراء المعارضة، أدى إلى زرع الخوف والجهل وشجع التعصب ما بين المجتمعات العرقية. فمُنع الشيعة من إحياء الاحتفالات العامة أو الشعائر وحُظرت الصوفية.
ولكن، هناك بعض الإشارات على أن أعضاءً في القضاء قد يجدون مخرجاً لتخفيف التوترات الآنية بين الدولة والمجتمع الشيعي. فقد أُطلق سراح ثلاثة رجال في ولاية بيراك بعد اعتقالهم في أيلول 2013 بتهمة حيازة منشورات شيعية. ورفع قاضي المحكمة الشرعية التهمة عنهم في شباط من العام نفسه لأنه وجد أن الصياغة فيها عيب وخلل. والمحكمة نفسها أطلقت سراح رجلين آخرين في كانون الأول 2013 كانا قد اتُهما على أُسس مُشابهة.
لا يبدو أن مستقبل المجتمع الشيعي الماليزي مُشرقاً. فالتوترات الطائفية المتصاعدة في العالم العربي أدت إلى استقطاب سياسي بين الفرعين الأساسيين في الإسلام. فمنذ سقوط نظام صدام حسين في العراق وتسلم الأغلبية الشيعية السلطة في البلاد، أصبح هناك رواية صاخبة تحيط بعداونية السكان الشيعة. وسواء تعلق الأمر بمطالبة الأغلبية الشيعية في البحرين بمشاركة سياسية أوسع أو انخراط حزب الله اللبناني في الحرب الأهلية السورية، هناك أناس من السنة يرون أن جميع هذه الأعمال مرتبطة على نحو ما بالدفع الشيعي الموجه مركزياً نحو النفوذ والسلطة.
بغض النظر عن مدى الدسيسة في تلك الرواية، يبقى لها حضور في جنوب شرق آسيا. ولكن في في ماليزيا ذاك التخوف يجب أن يُرى في سياق النظام السياسي والاجتماعي الذي يتعاطى بشكل تمييزي مع جماعة عرقية واحدة وارتباطه بالإسلام السني. هذا الدمج يعني أيضاً أن قضية اعتناق التشيع هي مسألة بالغة الحساسية في ماليزيا. وطالما بقيت المصلحة الدولية في السلوك التمييزي للسلطات الماليزية اتجاه الشيعة في البلاد محدودة من حيث المدى، هناك احتمال بسيط بأن يتغير الوضع في أي وقت قريب.
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية
19/5/150126
https://telegram.me/buratha