بسم الله، والصلاة والسلام على الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها، خصوصاً المعزّى صاحب المصيبة، إمام زماننا – أرواح العالمين له الفداء -، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، وبعد :-
تمرّ علينا هذه الأيام أشدّ الذكريات المعصومية حزناً وأسىً؛ وهي ذكرى شهادة الصديقة الطاهرة، جوهرة العصمة، وحلقة الوصل بين نوري النبوة والإمامة، مستودع الأسرار الإلهية الخفية، البتول الزهراء فاطمة (عليها السلام)، وهذه الفاجعة الأليمة على قلب المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وقلب إمام زماننا أرواحنا له الفداء، وأهل البيت عامة (صلوات الله عليهم أجمعين)، محل اهتمام أئمتنا (عليهم السلام)، ومراجعنا الأعلام (رضوان الله عليهم)، ولذلك فجديرٌ بنا جميعاً إحياء هذه الذكرى الحزينة في المساجد، والحسينيات، والخروج بالمواكب حفاةً خاشعين، كما يصنع مراجع الأمة وقادتها، ورفع الأعلام السود في كل مكان، حيث لا تقصر هذه الذكرى ألماً وحزناً عن ذكرى عاشوراء العظيمة، كما إنها رمزٌ للفداء والتضحية، دفاعاً عن الدين والإمامة، لذلك لن ننسى أبداً، ولن يفتر حزننا، ولن تهدأ صرختنا..
لَكِنَّ كَسْرَ الضِّلْعِ لَيْسَ يَنْجَبِرْ *
إلاّ بِصِمْصَامِ عَزِيزٍ مُقْتَدِرْ
وبهذه الفاجعة نستذكر ما ورد في شأنها، من قول الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): { … وهي الصديقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى } – أمالي الشيخ الطوسي، ص668 – .
وهو قول يستحق التأمل من خلال عدة معاني، مستفيدين من القواعد العلمية الرصينة التي حررها علماؤنا الأبرار، وأئمة هذا الفن (قدس الله أسرارهم) :
المعنى الأول:
إن مقتضى قاعدة الإمكان الأشرف نزولُ فيض الوجود من عالم الجبروت إلى الملكوت، إلى عالم الناسوت، إلى الهَيُولى الأولى، وهو قوس النزول، وحيث لا تُعقل الحركة من الكمال إلى النقص؛ فلا بُدَّ من قوس صعود، من أدنى وجود إلى أكمل موجود، وبناءً على ذلك؛ فالموجود الأكمل هو الغاية القصوى الذي تدور عليه حركة الوجود في قوسي النزول والصعود، وهو معنى دوران الكون منذ قرونه الأولى على معرفة الأكمل وهو نور فاطمة (عليها السلام)، فهي العلة الغائية لكل وجود، وهذا ما يؤكده الحديث المستفيض – الذي لا شك في صدوره – : { ما خلقتُ سماءً مَبْنيَّةً، ولا أرضاً مدحيةً، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئةً، ولا فلكاً يدور، ولا فلكاً تسري، ولا بحرا يجري، إلا لمحبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء، فقال الأمين جبرئيل يا رب : ومن تحت الكساء؟ فقال الله – عز وجل – : هم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، وهم فاطمة، وأبوها، وبعلها، وبنوها }.
المعنى الثاني:
إن مقتضى قاعدة الإمكان الأشرف أيضا؛ إن كل فاعل في البدايات له غاية في النهايات يتحد معها، فالإنسان القدسي الكامل لأجل اتحاده مع الفواعل العالية في العوالم الأولى، فهو الواسطة في الإفاضة الروحانية والنورانية منها في عالم الملك والطبيعة، فهو المبتدأ وهو المنتهى، وبناءً على ذلك فالنور الفاطمي الأكمل هو العلة الفاعلية، لا بمعنى ما منه الوجود، بل بمعنى ما به الوجود، فصراط الوجود بجميع عوالمه وقرونه الأولى يدور في فلك التعرف عليها، تعرف المعلول على علته، معرفة فعلية هي عبارة عن استفاضته منها، واستمدادا من خيرها، قال الإمام الهادي (عليه السلام) في زيارة الجامعة: { بِكُمْ فَتَحَ الله، وَبِكُمْ يَخْتِمُ، وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الغَيْثَ } .
المعنى الثالث:
إن لكل موجود مادي أربعة أبعاد من: طول، وعرض، وعمق، وزمن، وكل بعد من هذه الأبعاد شيء، فهو مشمول لقوله – عز وجل – { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } – الإسراء، آية 44 -، فالزمن بحركته التوسطية والقطعية وجود يسبح الله، ولكل مسبح لله إمام يدله على الغاية والطريق إليها، كما حدث به القرآن في حق المصطفى (صلى الله عليه وآله): { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } – الأنبياء، آية 107 -، وكذلك دلت النصوص على خضوع ليلة القدر لرعاية المعصوم وعنايته، وهي زمان قدسي مبارك ببركة نور العصمة، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } – الدخان، آية 3 -، حيث دلت الآية، وسورة القدر، على أن الليلة كانت مباركة في نفسها، قبل نزول القرآن، ولأجل بركتها أنزل فيها القرآن الكريم، وما بركتها إلا بخضوعها لنظر المعصوم (عليه السلام)، كخضوع المكان لنظره وبركته أيضا، قال تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } – البقرة، آية 125 -، فالزمن مثل المكان، وجود يسبح الله ويهتدي بهدى المعصوم (عليه السلام)، ويخضع لعنايته، ولذلك كان الحجة (عجل الله فرجه الشريف) إماما للزمان نفسه، لا إماما في الزمان، فالزمان ليس ظرفا لإمامته، بل مأمومٌ لقيادته ونظره، ومن هنا نفهم دوران القرون الزمنية منذ الأولى منها وإلى آخرها على معرفة النور الفاطمي، والائتمام بهداه، والخضوع لبركته ورحمانيته.
المعنى الرابع:
الإشارة لعالم العهد والميثاق، حيث دلّت النصوص المتعددة إنه ما خلق وأبدع الله عالماً من العوالم كعالم العقول، والنفوس، والملك، والجان، والإنس، من دون فرق بين نبي، أو وصي، أو ولي، إلا وعرض عليه في عالم الأرواح ولاية المعصوم (عليه السلام)، فتشرف بها من قَبِلَها عن رضاً وطواعية، كما أشارت إليه الزيارة: { خَلَقَكُمُ الله أَنْواراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحَدِّقِينَ حَتّى مَنَّ عَلَيْنا بِكُمْ }، فالمقصود بهذا الامتنان هو ما حصل في عالم الميثاق من تشرف نفوس المؤمنين بنور الولاية، وهو ما أشارت إليه زيارة البتول (عليها السلام): { يا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ الله الَّذِي خَلَقَكِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ فَوَجَدَكِ لِما امْتَحَنَكِ صابِرَةً، وَزَعَمْنا أَنَّا لَكِ أَوْلِياء }، فإن هذا الزعم والتعهد بالولاية لها منذ ذلك الزمن – زمن العهد والميثاق -، وبهذا يتبين أنه لم يمر زمان ولا قرن من القرون الأولى إلا وهو يدور بأنبيائه، وأوصيائه، وأهله، على معرفتها، وإنما خصصت بالذكر – مع إن ما ثبت لها من المقام ثبت لأبيها، وبعلها – بلحاظ أنها النور الجامع بين الشمسين ” النبوة، والإمامة “، وهو السرّ الخفي المستودع فيها الذي لا يُعرَف كنهه وحدوده، وهو ما أشار له الحديث القطعي حديث الكساء، حيث ابتدأ باسمها.
وكل ذلك لا يعدل مقدار أنملة من مقامات البتول (صلوات الله عليها)، التي فُطِمَ الخلق عن معرفتها، وسيلتنا، وشفيعة ذنوبنا، وغاية كل تضرعاتنا، وحقيقٌ بنا بهذه الأيام الشريفة أن نتوسل ونتضرع بالبتول الزهراء (عليها السلام) أن يفرج الله كرباتنا، ويحفظ وجودنا، وكرامتنا، وشعائرنا، وينقذ أسرانا، وأبناءنا، إنه خير ناصر ومعين، والحمد لله رب العالمين.
19/5/150305
https://telegram.me/buratha