◾ محمّد صادق الهاشميّ
قال تعالى : {و لقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثمّ أناب}. الجسد: هو الجسم الذي لا روح فيه. والفتنة: الامتحان والاختبار ٍ.
إنّ ظاهر الآية يدلّ على : أنّ الله ابتلى سليمان فألقى على كرسيّه جسداً، ثمّ على أثره أناب سليمان ورجع إلى الله، فما هي حقيقة هذا الجسد الملقى؟، لم نجد في الكتاب الكريم ما يبيّنُ ذلك. وللمفسّرين وجوه متعددة في توضيح هذا الجسد، وكلّها لا تصبْ شيئاً يُثبت الحقيقة، نذكر أهمّها :
1. ما ذهب إليه أقدم المفسّرين من أهل السنّة، وهو عبد الرزاق الصّنعاني ( تـ : 211 هـ ): أنّ بعض الخواتم لها آثار عظيمة، وكانت نبوّة سليمان تكمن في خاتمٍ كان يلبسه، فسخّر الله به لسيمان الطير والجنّ والرياح، وفي ذات يوم قد ارتكب سليمان معصيةً، إذْ قارف إحدى زوجاته وهي في المحيض، فعاقبه الله إذْ دخل الحمّام ليغتسل، وترك الخاتم فمكّن الله الشيطان ليسلبه منه وأخذه، وجلس على كرسي سليمان؛ أربعين يوماً، وهذا معنى « الجسد » الذي ألقي على كرسيّ سليمان . ثمّ افتضح أمر هذا الشيطان الذي كان يتقمّص شخصية سليمان، وقد كشفَ زيفَه رجلٌ من أصحاب سليمان كان يشبه عمر بن الخطاب، فهرب الشيطانُ وألقى الخاتم في البحر، ثمّ شاءت الصّدف أنْ عَثَر عليه سليمان بسمكةٍ قد اصطيدت.
ثمّ وافق هذا التفسير من العامّة: الطبريّ ( تـ : 310هـ)، وقريب منه ابن أبي حاتم (تـ : 327هـ)، وابن كثير ( تـ : 774 هـ ) ، والسيوطيّ ( 911). ثمّ تسّرب هذا الفهم إلى تراث أهل البيت (ع) من خلال روايةٍ مرسلةٍ((غير موثقة )) أوردها القمّي في تفسيره، قال: « قال الصّادق (ع): جعل الله عزّ وجلّ ملك سليمان في خاتمه، فكان إذا لبسه حضرته الجن والانس والشياطين وجميع الطيور والوحش وأطاعوه» ، ثمّ ساق الكلام بما يقرب من رواية الصنعانيّ.
وهذا التفسير يكفي في رفضه وبطلانه أنّه لا دليل عليه، وإنّما هو أشبه بضرب من الخرافة والتقوّل على الأنبياء بغير الحقّ، وهو أيضاً يطعنُ في عصمة سليمان؛ نبيّ يقارف زوجته في حيضها!!! .
2. رُوي عن أبي هريرة: أنّ سليمان قال يوما في مجلسه: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، تلد كلُّ امرأة منهنّ غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله. ولم يقل: (إنْ شاء الله)، فطاف عليهنّ، فلم تحمل منهنّ إلّا امرأةٌ واحدةٌ، جاءت بشقّ ولدٍ((غير مكتمل الخلقة )) ، ألقاه الله على كرسيّ سليمان((اي يكون خليفته)) ؛ لأنّه لم يقل : « إنْ شاءَ اللهُ ».
وهذا المعنى أورده البخاري في صحيحه 3/ 209، ومسلم في صحيحه أيضاً 5/ 88، والنسائي في سننه 7/ 25، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 44.
وأورده بعض الشيعة في مصنّفاتهم كالطبرسيّ في المجمع 3/ 360، والفيض الكاشانيّ في الصافي 4 / 299، وغيرهم .
أقول: إنّ هذا الوجه يصوّر نبيّاً على صورةٍ غير لائقة بالأنبياء ، إذْ لا شغل له إلّا الجنس، وأن يطأ في ليلة واحدةٍ سبعين امرأة من نسائه، ويتعهّد أنّهنّ سيلدن ذكوراً، ولم يقل: «إنْ شاء الله»، مضافاً إلى أنّه القول لا شاهد يعضده إلّا رواية أبي هريرة ، وهي كما ترى.
3. وذُكر أنه وُلد لسليمان ولدٌ فابتلى اللهُ سليمان بصبره فأماته في أحضانه، وهو على كرسيه. وهذا المعنى ذهب إليه السيّد الطباطبائي في « الميزان » قال: « الذي يمكن أن يؤخذ به أنه كان جسدَ صبيٍّ له أماته الله وألقى جسده على كرسيه، وفي قوله: {ثم أناب قال ربّ اغفر لي } إشعار أو دلالة على أنه كان له (ع) فيه رجاء أو أمنية في الله فأماته الله سبحانه، وألقاه على كرسيه فنبّهه أنْ يفوّض الأمر إلى الله و يسلّم له، ونلاحظ ان السيد لم يعط رأيا جازما محددا بل جعله داخل في دائرة الإمكان .
أقول: وهذا الرأي أيضاً لا يساعد عليه ظهورُ آية ، ولا صحيحُ روايةٍ.
4. إنّ الله ابتلى سليمان بمرضٍ عضالٍ، حتّى غدا جسدا هامداً، وتقدير الآية: وألقينا من سليمان على كرسيه جسداً لشدّة المرض، كما يقولون: جسدٌ بلا روحٍ تغليظاً للعلّة،
أقول فيه كما قلتٌ في الاحتمال الثالث، أنّه لا يساعد عليه ظهور آية ، ولا صحيح روايةٍ. والحقّ أن يقال: إنّ هذه الآية من قسم « المتشابه»، فإنّ القرآن يصرّح : {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، ولم يردْنا من الله في كتابه، ولا من الراسخين في العلم من رواياتهم الموثوقة ما يزيح الجهلَ عنّا في هذه الآية، وكلّ الذي يظهر من ألفاظها أنّ الله ابتلى سليمان بوضع جسدٍ على كرسيه، اقتضى الإنابة منه (ع) والرجوع إلى الله، وما ذُكر من الوجوه لا يصحّ التعويل عليه في الكشف عن مراد الله ، وكلّ الذي نعلم أنّنا لا نعلم، وهو وحده جلّ جلاله ونبيّه وأهل بيته من يعلم .
27 / 4 / 2020م ، الموافق 3 / من شهر رمضان / 1441هـ .
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha