محمّد صادق الهاشميّ
إنّ النبيّ موسى ورد ذكره في القرآن « 136 » مرّة بمناسبات مختلفةٍ، ومن ضمنها آياتٌ تدلّ على معجزاتٍ قد أجراها الله علي يده، وآيات الشجرة المباركة في الوادي المقدّس طوى.
ولكنْ رغم هذا ، فقد اُدّعي أنّ هذا النبيّ قد ارتكب جريمةَ قتلٍ، وعُبّر عنها بقوله: {ودخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، هذا من شيعته وهذا من عدوّه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه فوكزه موسى فقضى عليه}، وبعد عملية القتل ندم موسى، ووصف فعلته بأربعة أوصاف: {هذا من عمل الشيطان} [القصص: 15]،{ظلمت نفسي}[القصص: 16]، {فاغفر لى فغفر له}[القصص: 16]، {قال فعلتها إذا وأنا من الضّالين}[الشّعراء : 19].
وتقريبُ الشبهةِ: كيف تقولون بعصمةِ الأنبياء؟ مع أنّ القرآن يحكي عن بعضهم ارتكاب جرائم القتل ، التي يعترفون هم أنّها من عمل الشيطان، وأنّهم فعلوها وهم ضالّون؟.
أقول: قبل أنْ ندخل في جواب الشبهة لا بدّ من مقدّمةٍ موجزةٍ نلقي الضوء فيها على الطبقية التي كانت سائدةً في المجتمع المصري، فقد كان مجتمعاً مصنّفاً على ثلاث طبقاتٍٍ:
(الأولى) : طبقة الملوك وهم الفراعنة: العائلة التي بلغت حدّاً أنْ قال فرعونهم : {...أنا ربّكم الأعلى }[النازعات: 24]، وأنّه لا يحقّ للناس أنْ تؤمن بشيء إلّا بعد إذنه، فقال لمَن آمن بموسى: {... آمنتم له قبل أن آذن لكم!!}.
والطبقة الثانية): طبقة الأقباط، وهي الطبقة المقرّبة من الفراعنة، التي كان يعتمدها الفراعنة في تنفيذ ما يريدون، فهم قادة الجيش، وقضاة الجور، ومدراء الأمن، وهكذا مناحي الحياة كلّها، فكانت كلّ الجرائم والظلم تنفّذ بيد هؤلاء، وهم بحقٍّ: الطبقة القذرة المجرمة.
(الطبقة الثالثة): طبقة العبيد، وهم قوم موسى (ع)، التي كانت كلّ مشاريع الدولة تقام على أكتافهم مجاناً، ولقد مات من الظلم من هذه الطبقة الكثيرون، وما تفخر به مصر اليوم من (الأهرام) هو في الحقيقة شاهد عارٍ وظلم ، فقد بُنيت هذه الأهرام بحجارةٍ كان يستغرق حملها الساعات، ويموت تحتها من لا يستحقُّ أنْ يرفع من الأرض، فتأكله وحوش الأرض، قال تعالى: { يستضعف طائفةً منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءَهم إنه كان من المفسدين}. والمصيبةُ أنّ هذا الاستعباد كان يعدّه فرعون نعمةً على بني إسرائيل: {وتلك نعمة تمنّها على أن عبدت بنى إسرائيل}!![ الشعراء: 22].
وبعد هذه المقدّمة، فلا شكّ أنّ قتل القبطيّ ليس أمراً محرّماً في الشرع ولا في العقل، بعد ما عرفت الدور القذر الذي كان الأقباط يلعبونه في خدمة حاكم ظالم متغطرس، نظير أنْ تقتل بعثياً كان موغلاً في دماء المؤمنين. ولكن لك أن تتساءل: أنّ قتله إذا لم يكن محرّماً فلماذا قال موسى: هذا من عمل الشيطان؟.
قلتُ: يحتمل أمران:
الأوّل: أنّ نصرة موسى لأخيه لم تكن منحصرةً بقتل هذا الرجل المقرّب من السّلطة، بل كان الأولى له أن يطرده منه، ويزيحه عنه؛ فإنّ قتل هذا الرجلٍ سوف يجرّ عليهم الويلات، وبالفعل فقد اضطرّه إلى ترك البلاد، وتحمّل آلام الهجرة والغربة عن أبناء جلدته، الذين كانوا في أشدّ الحاجة إليه، فقد قرّر البلاط قتل موسى على أثر هذا الحادث، قال تعالى:{ إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج}، فالانتقال إلى موقف تصعيدي جدّاً مع أنّه كان بإمكانه أن يدفعه بما لا يكلّف هذا التضحية خلاف الأولى، نعم لقد عرف موسى سوء تقديره فلهذا ندم عليه، فلم يكن موسى مرتكباً جريمةً ليندم عليها.
وبعبارة أخرى: أنّ القبطي يستحقّ القتل لكنّ الظروف لم تكن مناسبةً لقتله. ومنه تعرف قوله: ظلمت نفسي، فطلبُ الغفران على تركه لما هو أولى يناسبُ مقام المقرّبين إلى الله؛ فالآيات بهذا البيان تنسجم مع آيات المدح والثناء وإجراء المعجرات على يده.
يضاف إلى ذلك أنّه لو كان موسى مجرما في هذه الحادثة فكيف جاءته النبوّةُ ومعجزات العصا بعد هذه حادث القتل، قال تعالى: {وأوحينا إلى موسى أنْ ألق عصاك فإذا هي تلقفُ ما يأفكون}[الأعراف: 117]. وفلق البحر، {فأوحينا إلى موسى أنْ اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كلّ فرقٍ كالطودِ العظيم}[ الشعراء : 62].
الثاني : إنّ اسم الإشارة «هذا» في قوله : هذا من عمل الشيطان لا يعود إلى القتل، فليس معناه: أنّ القتل من عمل الشيطان، بل هو إشارة إلى أنّ نفس النزاع الذي كان قائماً بين القبطي والاسرائيلي ناشيءٌ من الغضب الذي هو أمرٌ شيطانيّ، كما أشارتِ الروايةُ عن الإمام الرضا (ع) إلى هذا. [ اُنظر كتاب عيون الأخبار : 1 / 198].
28 / 4 / 2020م ، الموافق 4 / من شهر رمضان / 1441هـ
https://telegram.me/buratha