محمّد صادق الهاشمي
إنّ أعلى مقام قد وصل إليه إبراهيم (ع) هو مقام « رؤيته عالم الملكوت».
توضيح ذلك: أنّ هناك مصطلحين يترددان كثيراً في القرآن الكريم، هما ( عالم المُلك، وعالم الملكوت)، فما المقصود منهما؟ فمن الضروري أن نشير بإيجازٍ إلى ذلك:
1. إنّنا - معاشر البشر – لا نرى إلّا الأشياء والأعيان الثابتة في الخارج الواقعة في مساحة أنظارنا، وهذا ما يعبُّر عنه في القرآن بـ « عالم الشّهادة (أي المشاهد والمحسوسات)، أو عالم الملك».
2. أمّا عالمُ ما وراء الحسّ فيعبّر عنه بعالم « الملكوت»، وهذا العالم بالنسبة لنا يعتبر غيباً، ولكنّه بالنسبة لإبراهيم (ع) فيعتبر مشاهداً محسّوساً؛ لأنّ الله قد أطلعه على هذا العالم، قال الله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75]، فهو يشاهد الملائكة، وكلّ ما ملك الله وغاب عن حواسّنا، فهو يشاهد بنور الله أنوارَ جماله وجلاله، فقد وصل إبراهيم إلى مرحلةٍ عبّر عنها القرآن «الموقنين»، وقد لا يصل إليها كلّ إنسانٍ وإنْ سعى سعيه، قال تعالى:{ولكلّ درجات ممّا عملوا} [الأنعام: 132].
ولكنْ رغم ذلك فإنّ هناك شبهاتٍ قد يقع فيها كثيرٌ الناس، منها قوله تعالى: { فلمّا جَنّ عليه الليلُ رأى كوكباً قال: هذا ربي، فلمّا أفل قال لا أحبّ الآفلين * فلمّا رأى القمر بازغاً قال :هذا ربّي، فلمّا أفل: قال: لئن لم يهدني ربّي لأكونَنّ من القوم الضّالين * فلما رأى الشمسَ بازغةً قال: هذا ربّي؛ هذا أكبر، فلمّا أفلت قال يا قومِ إنّي برئ ممّا تشركون ...}[ الأنعام: 76 – 78]. وقد اُشكل على هذا النصّ القرآنيّ بإشكالين:
(الأوّل): إنّ ظاهر هذه الآيات أنّ إبراهيم كان ضالّاً، ولم يكن مهتدياً عارفاً بربّه، بل كان في فترةٍ من حياته باحثاً عن ربّه، يتأرجحُ في اعتقاده بين الكواكب التي كان قومُه يعبدونها، فكيف يدّعي مع هذا الظهور أنّ الأنبياء مهتدون منذ الصّغر.
(الثاني): أنّ إبراهيم لمّا أشار للشمس قال: (هذا)، وهو خطأٌ ؛ لأنّ كلمة « الشمس» مونثةٌ، والصحيح أن يشار إليها بلفظ: «هذه»، فكيف وقع هذا الخطأ في ما حكاه الله عن إبراهيم؟
أمّا (جواب الإشكال الأوّل): فإنّ إبراهيم حينما كان يقول: « هذا ربّي» كلّما طلع كوكبٌ لم يكن شاكّاً بربّه، بل كان يجاري قومَه في اعتقاداتهم؛ ليثبت لهم عدم صلاحية الكواكب للربوبيّة؛ لأنّها آفلةٌ، والآفلُ زائلٌ فلا يصلحُ أنْ يكون مدبّراً للكونِ، وقد أجاد في ما أفاد السيّد علم الهدي (تـ : 436هـ) حيث قال: «... إنّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمل» انتهى [تنزيه الأنبياء: ص 21 انتهى]، لقد كان آخذاً بقلوب قومه أخذاً هادئاً ليقتلع من قلوبهم عقيدةً راسخةً.
وهذا الاُسلوب في الدعوة اُسلوبٌ قرآنيٌّ ، فما ظنّك بفرعون المدّعي للربوبيّة، إذْ يأمر الله موسى (ع) قائلاً لهما : {إذهبا إلى فرعون إنه طغى* فقولا له قولاً ليّناً...}، وقال تعالى: { اذهبْ إلى فرعون إنه طغى* فقلْ هل لك إلى أنْ تَزكّى * وأهديك إلى ربّك فتخشى }[النازعات:17 – 19]، وقال تعالى: { ولا تسبّوا الذين يدعون من دون اللّه...}[الأنعام: 108]، وعلى هذا فلا بدّ لإبراهيم من اتباع هذا الاسلوب في الدعوة. قال الفيض الكاشانيّ (تـ : 1091 هـ ) في تفسيره «الصافي» ج 2، ص 134: « وكان ما احتجّ به على قومه [هو] ما ألهمه الله وآتاه، كما قال الله: {وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم على قومه...}[الأنعام: 82]. أي أنّ هذا الأسلوب في الدعوة هو ما علّمه الله وأراده أنْ يكون طريقاً في للهداية. ويؤيّد ذلك: أنّ هذه الآيات جاءت بعد الآية التي تحكي قول الله مباشرة : {... نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين}[الأنعام : 75] ، فكيف يقال: إنّ إبراهيم كان شاكّاً والقرآن يصرّح أنّه من الموقنين.
أمّا (الإشكال الثاني) فقد اُجيب عنه بوجوهٍ منها:
1. أنّ الله نقل قول إبراهيم مراعياً فيه لغة إبراهيم التي تكلّم بها، وهي «السّريانية» التي لا يُراعى فيها التأنيث التذكير، كأغلب اللغات الأعجمية.
أقول: هذا الاحتمال لا تساعد عليه الآيات التي حكي الله فيها كلام إبراهيم الآخر، مراعياً فيه التذكير والتأنيث، فقال في خصومته مع النمرود، مشيراً إلى الشمس بالتأنيث، بقوله: « بها »، {قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشّمس من المشرق فأتِ (بها) من المغرب}[ البقرة: 258]، وقال في شأن الأصنام: {ما هذه التماثيل (التي أنتم لها) عاكفون}،[الأنبياء: 52].
2. إنّ إبراهيم أشار إلى الشمس قاصداً الجرم أو الكوكب، أو، كما صدّر به الحديث عن الكواكب، فلم يكن إبراهيم سريانياً لا يجيدُ العربية.
3/ 5 / 2020م ، الموافق : 9 / من شهر رمضان / 1441هـ .
ــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha